على موافقة الآخر. الخامس: أنه لا يجوز أن يقال: إن موسى عليه السلام دعا ربه بأن يطمس على أموالهم لأجل أن لا يؤمنوا مع تشدده في إرادة الإيمان.
واعلم أنا بالغنا في تكثير هذه الوجوه في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
وإذا ثبت هذا فنقول: وجب تأويل هذه الكلمة وذلك من وجوه: الأول: أن اللام في قوله * (ليضلوا) * لام العاقبة كقوله تعالى: * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * (القصص: 8) ولما كانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال، وقد أعلمه الله تعالى، لا جرم عبر عن هذا المعنى بهذا اللفظ. الثاني: أن قوله: * (ربنا ليضلوا عن سبيلك) * أي لئلا يضلوا عن سبيلك، فحذف لا لدلالة المعقول عليه كقوله: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * (النساء: 176) والمراد أن لا تضلوا، وكقوله تعالى: * (قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة) * (الأعراف: 172) والمراد لئلا تقولوا، ومثل هذا الحذف كثير في الكلام. الثالث: أن يكون موسى عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التعجب المقرون بالإنكار والتقدير كأنك آتيتهم ذلك الغرض فإنهم لا ينفقون هذه الأموال إلا فيه وكأنه قال: آتيتهم زينة وأموالا لأجل أن يضلوا عن سبيل الله ثم حذف حرف الاستفهام كما في قول الشاعر:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا أراد أكذبتك فكذا ههنا. الرابع: قال بعضهم: هذه اللام لام الدعاء وهي لام مكسورة تجزم المستقل ويفتتح بها الكلام، فيقال ليغفر الله للمؤمنين وليعذب الله الكافرين، والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك. الخامس: أن هذه اللام لام التعليل لكن بحسب ظاهر الأمر لا في نفس الحقيقة وتقريره أنه تعالى لما أعطاهم هذه الأموال وصارت تلك الأموال سببا لمزيد البغي والكفر، أشبهت هذه الحالة حالة من أعطى المال لأجل الإضلال فورد هذا الكلام بلفظ التعليل لأجل هذا المعنى. السادس: بينا في تفسير قوله تعالى: * (يضل به كثيرا) * في أول سورة البقرة إن الضلال قد جاء في القرآن بمعنى الهلاك يقال: الماء في اللبن أي هلك فيه.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله: * (ربنا ليضلوا عن سبيلك) * معناه: ليهلكون ويموتوا، ونظيره قوله تعالى: * (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) * (التوبة: 55) فهذا جملة ما قيل في هذا الباب.
واعلم أنا قد أجبنا عن هذه الوجوه مرارا كثيرة في هذا الكتاب، ولا بأس بأن نعيد بعضها في هذا المقام فنقول: الذي يدل على أن حصول الإضلال من الله تعالى وجوه: الأول: أن العبد لا يقصد إلا حصول الهداية، فلما لم تحصل الهداية بل حصل الضلال الذي لا يريده، علمنا أن حصوله ليس من العبد بل من الله تعالى.