فإن قالوا: العبد إنما سعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الفاسد الباطل، لأنه اشتبه الأمر عليه وظن أنه هو الاعتقاد الحق الصحيح. فنقول: فعلى هذا التقدير: إنما وقع في هذا الجهل لأجل ذلك الجهل المتقدم، فإن كان إقدامه على ذلك الجهل السابق لجهل آخر لزم التسلسل وهو محال، وإن انتهى إلى جهل حصل ابتداء لا لسابقة جهل آخر، فقد توجه الإلزام وتأكد الدليل والبرهان، فثبت أن هذه البراهين العقلية ناطقة بصحة ما دل عليه صريح قوله سبحانه وتعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * قالت المعتزلة: لا يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم، لأن كثيرا من الآيات دالة على أنه أراد من الكل الطاعة. والعبادة والخير والصلاح. قال تعالى: * (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله) * (الفتح: 8، 9) وقال: * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) * (النساء: 64) وقال: * (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا) * (الفرقان: 50) وقال: * (هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور) * (الحديد: 9) وقال: * (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) * (الحديد: 25) وقال: * (يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) * (إبراهيم: 10) وقال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) وأمثال هذه الآيات كثيرة، ونحن نعلم بالضرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن، فعلمنا أنه لا يمكن حمل قوله تعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * على ظاهره.
الوجه الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: * (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها) * وهو تعالى إنما ذكر ذلك في معرض الذم لهم، ولو كانوا مخلوقين للنار، ولما كانوا قادرين على الإيمان البتة وعلى هذا التقدير فيقبح ذمهم على ترك الإيمان.
الوجه الثالث: وهو أنه تعالى لو خلقهم للنار لما كان له على أحد من الكفار نعمة أصلا، لأن منافع الدنيا بالقياس إلى العذاب الدائم، كالقطرة في البحر، وكان كمن دفع إلى إنسان حلوا مسموما فإنه لا يكون منعما عليه، فكذا ههنا. ولما كان القرآن مملوء من كثرة نعمة الله على كل الخلق، علمنا أن الأمر ليس كما ذكرتم.
الوجه الرابع: أن المدح والذم، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه.
الوجه الخامس: لو أنه تعالى خلقهم للنار، لوجب أن يخلقهم ابتداء في النار، لأنه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم.
الوجه السادس: أن قوله: * (ولقد ذرأنا لجهنم) * متروك الظاهر، لأن جهنم اسم لذلك الموضع