والقول الثاني: في تفسير هذه الآية قول أصحاب النظر وأرباب المعقولات: أنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات، وجعلها علقة، ثم مضغة، ثم جعلهم بشرا سويا، وخلقا كاملا ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقه، وغرائب صنعه. فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا بلى، وإن لم يكن هناك قول باللسان، ولذلك نظائر منها قوله تعالى: * (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) * (فصلت: 11) ومنها قوله تعالى: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40) وقول العرب: قال الجدار للوتد لم تشقني * قال سل من يدقني فإن الذي ورايي * ما خلاني ورايي وقال الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في الكلام، فوجب حمل الكلام عليه، فهذا هو الكلام في تقرير هذين القولين، وهذا القول الثاني لا طعن فيه البتة، وبتقدير أن يصح هذا القول لم يكن ذلك منافيا لصحة القول الأول: إنما الكلام في أن القول الأول هل يصح أم لا؟
فإن قال قائل: فما المختار عندكم فيه؟
قلنا: ههنا مقامان: أحدهما: أنه هل يصح القول بأخذ الميثاق عن الذر؟ والثاني: أن بتقدير أن يصح القول به، فهل يمكن جعله تفسير الألفاظ هذه الآية؟
أما المقام الأول: فالمنكرون له قد تمسكوا بالدلائل العقلية التي ذكرناها وقررناها، ويمكن الجواب عن كل واحد منها بوجه مقنع.
أما الوجه الأول: من الوجوه العقلية المذكورة، وهو أنه لو صح القول بأخذ هذا الميثاق لوجب أن نتذكره الآن.
قلنا: خالق العلم بحصول الأحوال الماضية هو الله تعالى لأن هذه العلوم عقلية ضرورية. والعلوم الضرورية خالقها هو الله تعالى، وإذا كان كذلك صح منه تعالى أن يخلقها.
فإن قالوا: فإذا جوزتم هذا، فجوزوا أن يقال: إن قبل هذا البدن كنا في أبدان أخرى على سبيل التناسخ وإن كنا لا نتذكر الآن أحوال تلك الأبدان!
قلنا: الفرق بين الأمرين ظاهر وذلك لأنا إذا كنا في أبدان أخرى، وبقينا فيها سنين ودهورا، امتنع في مجرى العادة نسيانها، أما أخذ هذا الميثاق إنما حصل في أسرع زمان، وأقل وقت فلم