كذلك، فإن كان الأول كانوا مكلفين لا محالة وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت عن أحوالهم في هذه الحياة الدنيا، فلو افتقر التكليف في الدنيا إلى سبق ذلك الميثاق لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولزم التسلسل وهو محال. وأما الثاني: وهو أن يقال إنهم في وقت ذلك الميثاق ما كانوا كاملي العقول ولا كاملي القدر، فحينئذ يمتنع توجيه الخطاب والتكليف عليهم.
الحجة العاشرة: قوله تعالى: * (فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق) * (الطارق: 5، 6) ولو كانت تلك الذرات عقلاء فاهمين كاملين، لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدافق ولا معنى للإنسان إلا ذلك الشيء فحينئذ لا يكون الإنسان مخلوقا من الماء الدافق وذلك رد لنص القرآن.
فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته؟ ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى هذه الحياة.
قلنا: هذا باطل لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقا على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقا على سبيل الإعادة. وأجمع المسلمون على أن خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ فدل هذا على أن ما ذكرتموه باطل.
الحجة الحادية عشرة: هي أن تلك الذرات إما أن يقال هي عين هؤلاء الناس أو غيرهم والقول الثاني باطل بالإجماع، بقي القول الأول. فنقول: إما أن يقال إنهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفة وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك والأول باطل ببديهة العقل. والثاني: يقتضي أن يقال الإنسان حصل له الحياة أربع مرات: أولها وقت الميثاق، وثانيها في الدنيا، وثالثها في القبر، ورابعها في القيامة. وأنه حصل له الموت ثلاث مرات. موت بعد الحياة الحاصلة في الميثاق الأول، وموت في الدنيا، وموت في القبر، وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى: * (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) * (غافر: 11).
الحجة الثانية عشرة: قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * (المؤمنين: 12) فلو كان القول بهذا الذر صحيحا لكان ذلك الذر هو الإنسان لأنه هو المكلف المخاطب المثاب المعاقب، وذلك باطل. لأن ذلك الذر غير مخلوق من النطفة، والعلقة، والمضغة، ونص الكتاب دليل على أن الإنسان مخلوق من النطفة والعلقة، وهو قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * وقوله: * (قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه) * (عبس: 17، 18) فهذه جملة الوجوه المذكورة في بيان أن هذا القول ضعيف.