وأقول تمام البيان فيه أن الزمان محيط بالشيء وظرف له، كما أن المكان محيط به وظرف له ومكان الشيء عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر ومن الجسم المحوي فإذا انسلخ الشيء من جلده فقد انفصل من السطح الباطن من ذلك الجلد وذلك السطح، وهو مكانه في الحقيقة فكذلك إذا تم الشهر فقد انفصل عن إحاطة ذلك الشهر به، ودخل في شهر آخر، والسلخ اسم لانفصال الشيء عن مكانه المعين، فجعل أيضا اسما لانفصاله عن زمانه المعين، لما بين المكان والزمان من المناسبة التامة الشديدة. وأما الأشهر الحرم فقد فسرناها في قوله: * (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) * (التوبة: 2) وهي يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر، والمراد من كونها حرما، أن الله حرم القتل والقتال فيها. ثم إنه تعالى عند انقضاء هذه الأشهر الحرم أذن في أربعة أشياء: أولها: قوله: * (واقتلوهم حيث وجدتموهم) * (النساء: 89) وذلك أمر بقتلهم على الإطلاق، في أي وقت، وأي مكان. وثانيها: قوله: * (وخذوهم) * أي بالأسر، والأخيذ الأسير. وثالثها: قوله: * (واحصروهم) * معنى الحصر المنع من الخروج من محيط. قال ابن عباس: يريد إن تحصنوا فاحصروهم. وقال الفراء: حصرهم أن يمنعوا من البيت الحرام. ورابعها: قوله تعالى: * (واقعدوا لهم كل مرصد) * والمرصد الموضع الذي يرقب فيه العدو من قولهم: رصدت فلانا أرصده إذا ترقبته، قال المفسرون: المعنى اقعدوا لهم على كل طريق يأخذون فيه إلى البيت أو إلى الصحراء أو إلى التجارة، قال الأخفش في الكلام محذوف والتقدير: اقعدوا لهم على كل مرصد.
ثم قال تعالى: * (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أن تارك الصلاة يقتل، قال لأنه تعالى أباح دماء الكفار مطلقا بجميع الطرق، ثم حرمها عند مجموع هذه الثلاثة، وهي التوبة عن الكفر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فعندما لم يوجد هذا المجموع، وجب أن يبقى إباحة الدم على الأصل.
فإن قالوا: لم لا يجوز أن يكون المراد الإقرار بهما واعتقاد وجوبهما؟ والدليل عليه أن تارك الزكاة لا يقتل.
أجابوا عنه: بأن ما ذكرتم عدول عن الظاهر، وأما في تارك الزكاة فقد دخله التخصيص.
فإن قالوا: لم كان حمل التخصيص أولى من حمل الكلام على اعتقاد وجوب الصلاة والزكاة؟
قلنا: لأنه ثبت في أصول الفقه أنه مهما وقع التعارض بين المجاز وبين التخصيص، فالتخصيص أولى بالحمل.