واعلم أن الأستاذ أبا بكر بن فورك زعم أنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى وأما سائر الأصحاب فقد أنكروا عليه هذا القول، وذلك لأن ذلك الكلام القديم إما أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات، وإما أن يكون شيئا آخر مغايرا لها. والأول: هو قول الرعاع والحشوية وذلك لا يليق بالعقلاء.
وأما الثاني: فباطل لأنا على هذا التقدير لما سمعنا هذه الحروف والأصوات، فقد سمعنا شيئا آخر يخالف ماهية هذه الحروف والأصوات، لكنا نعلم بالضرورة أن عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئا آخر سواها ولم ندرك بحاسة السمع أمرا آخر مغايرا لها فسقط هذا الكلام.
والجواب الصحيح عن كلام المعتزلة أن نقول: هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم، لأن كلام الله ليس إلا الحروف والأصوات التي خلقها أولا، بل تلك الحروف والأصوات انقضت وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم.
واعلم أن أبا علي الجبائي لقوة هذا الإلزام ارتكب مذهبا عجيبا فقال: كلام الله شيء مغاير للحروف والأصوات وهو باق مع قراءة كل قارئ، وقد أطبق المعتزلة على سقوط هذا المذهب والله أعلم. المسألة الرابعة: اعلم أن هذه الآية تدل على أن التقليد غير كاف في الدين وأنه لا بد من النظر والاستدلال، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر، بل يقال له إما أن تؤمن، وإما أن نقتلك فلما لم يقل له ذلك، بل أمهلناه وأزلنا الخوف عنه ووجب علينا أن نبلغه مأمنه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن التقليد في الدين غير كاف، بل لا بد من الحجة والدليل فأمهلناه وأخرناه ليحصل له مهلة النظر والاستدلال.
إذا ثبت هذا فنقول: ليس في الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة كم يكون ولعله لا يعرف مقداره إلا بالعرف، فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالبا للحق باحثا عن وجه الاستدلال أمهل وترك ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحق دافعا للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه والله أعلم.
المسألة الخامسة: المذكور في هذه الآية كونه طالبا لسماع القرآن فنقول: ويلتحق به كونه طالبا لسماع الدلائل، وكونه طالبا للجواب عن الشبهات، والدليل عليه أنه تعالى علل وجوب تلك الإجارة بكونه غير عالم لأنه قال ذلك بأنهم قوم لا يعلمون وكان المعنى فأجره، لكونه طالبا للعلم مسترشدا للحق وكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته.