قلنا: هذا مذهبنا على ما تقدم بيانه، قوله: لم قلتم أن إخبار الله تعالى عن عدالتهم وخيريتهم يقتضي اجتنابهم عن الصغائر؟ قلنا: خبر الله تعالى صدق، والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه، وفعل الصغيرة ليس بخير، فالجمع بينهما متناقض، ولقائل أن يقول: الإخبار عن الشخص بأنه خير أعم من الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور، أو في بعض الأمور، ولذلك فإنه يصح تقسيمه إلى هذين القسمين فيقال: الخير إما أن يكون خيرا في بعض الأمور دون البعض أو في كل الأمور، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين، فمن كان خيرا من بعض الوجوه دون البعض، يصدق عليه أنه خير، فإذن إخبار الله تعالى عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره تعالى عن خيريتهم في كل الأمور، فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلا عن الصغائر، وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه إلا أن هذا السؤال وارد عليها، أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها، من كان منهم موجودا وقت نزول هذه الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة، كما أن قوله: * (كتب عليكم القصاص) * (البقرة: 178)، * (كتب عليكم الصيام) * (البقرة: 183) يتناول الكل، ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت، وكذلك سائر تكاليف الله تعالى وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة فإن قيل: لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطابا لجميع من يوجد إلى قيام الساعة، فإنما حكم لجماعتهم بالعدالة فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم؟ قلنا: لأنه تعالى لما جعلهم شهداء على الناس، فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه، فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر، ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة، فإن الأمة اسم للجماعة التي تؤم جهة واحدة، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك ولأنه تعالى قال: * (أمة وسطا) * فعبر عنهم بلفظ النكرة ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر.
المسألة الخامسة: اختلف الناس في أن الشهادة المذكورة في قوله تعالى: * (لتكونوا شهداء على الناس) * تحصل في الآخرة أو في الدنيا. فالقول الأول: إنها تقع في الآخرة، والذاهبون إلى هذا القول لهم وجهان. الأول: وهو الذي عليه الأكثرون: أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أنهم الذين يكذبونهم، روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو