لحم، فطرن، حتى إذا ذهبن في السماء أشرف ينظر إلى الأرض، فرأى الجبال تدب كدبيب النمل. ثم رفع لهن اللحم، ثم نظر فرأى الأرض محيطا بها بحر كأنها فلكة في ماء. ثم رفع طويلا فوقع في ظلمة، فلم ير ما فوقه وما تحته، ففزع، فألقى اللحم، فاتبعته منقضات.
فلما نظرت الجبال إليهن، وقد أقبلن منقضات وسمعت حفيفهن، فزعت الجبال، وكادت أن تزول من أمكنتها ولم يفعلن، وذلك قول الله تعالى: (وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) (1).، وهي في قراءة ابن مسعود: (وإن كاد مكرهم). فكان طيرورتهن به من بيت المقدس ووقوعهن به في جبل الدخان. فلما رأى أنه لا يطيق شيئا أخذ في بنيان الصرح، فبنى حتى إذا شيده إلى السماء ارتقى فوقه ينظر، يزعم إلى إله إبراهيم، فأحدث، ولم يكن يحدث، وأخذ الله بنيانه من القواعد (فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) يقول: من مأمنهم، وأخذهم من أساس الصرح، فتنقض بهم فسقط. فتبلبت ألسن الناس يومئذ من الفزع، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا، فلذلك سميت بابل. وإنما كان لسانا الناس من قبل ذلك بالسريانية.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وقد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد) قال: هو نمرود حين بنى الصرح (2).
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم: إن أول جبار كان في الأرض نمرود، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره، فمكث أربع مئة سنة يضرب رأسه بالمطارق، أرحم الناس به من جمع يديه، فضرب رأسه بهما، وكان جبارا أربع مئة سنة، فعذبه الله أربع مئة سنة كملكه، ثم أماته الله. وهو الذي كان بنى صرحا إلى السماء، وهو الذي قال الله: (فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم) (3).
وأما قوله: (فأتى الله بنيانهم من القواعد) فإن معناه: هدم الله بنيانهم من أصله.
والقواعد: جمع قاعدة وهي الأساس. وكان بعضهم يقول: هذا مثل للاستئصال، وإنما معناه: إن الله استأصلهم. وقال: العرب تقول ذلك إذا استؤصل الشئ.