فلم يكن التخفيف إلا بعد التثقيل، ولو كان ثبوت العشرة منهم للمئة من عدوهم كان غير فرض عليهم قبل التخفيف وكان ندبا لم يكن للتخفيف وجه لان التخفيف إنما هو ترخيص في ترك الواحد من المسلمين الثبوت للعشرة من العدو، وإذا لم يكن التشديد قد كان له متقدما لم يكن للترخيص وجه، إذ كان المفهوم من الترخيص إنما هو بعد التشديد. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن حكم قوله: الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ناسخ لحكم قوله: إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا، وقد بينا في كتابنا لطيف البيان عن أصول الاحكام أن كل خبر من الله وعد فيه عباده على عمل ثوابا وجزاء، وعلى تركه عقابا وعذابا، وإن لم يكن خارجا ظاهره مخرج الامر، ففي معنى الامر بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
واختلفت القراء في قراءة قوله: وعلم أن فيكم ضعفا فقرأه بعض المدنيين وبعض البصريين: وعلم أن فيكم ضعفا بضم الضاد في جميع القرآن وتنوين الضعف على المصدر من ضعف الرجل ضعفا. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: وعلم أن فيكم ضعفا بفتح الضاد على المصدر أيضا من ضعف. وقرأه بعض المدنيين: ضعفاء على تقدير فعلاء، جمع ضعيف على ضعفاء كما يجمع الشريك شركاء والرحيم رحماء.
وأولى القراءة في ذلك بالصواب قراءة من قرأه: وعلم أن فيكم ضعفا وضعفا، بفتح الضاد أو ضمها، لأنهما القراءتان المعروفتان، وهما لغتان مشهورتان في كلام العرب فصيحتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الصواب. فأما قراءة من قرأ ذلك:
ضعفاء فإنها عن قراءة القراء شاذة، وإن كان لها في الصحة مخرج، فلا أحب لقارئ القراءة بها. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم) *.
يقول تعالى ذكره: ما كان لنبي أن يحتبس كافرا قدر عليه وصار في يده من عبدة الأوثان للفداء أو للمن. والأسر في كلام العرب: الحبس، يقال منه: مأسور، يراد به:
محبوس، ومسموع منهم: أناله لله أسرا. وإنما قال الله جل ثناؤه لنبيه محمد (ص) يعرفه أن قتل المشركين الذين أسرهم (ص) يوم بدر ثم فادى بهم كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم وإطلاقهم.