فلما جاءه الرسول قال: أجب أمير المؤمنين، فحسب يزيد أنما دعاه إلى تلك الأمور التي يفزع إليه منها، ويستعين برأيه عليها، فأقبل حتى دخل عليه، فسلم ثم جلس. فقال معاوية: يا يزيد ما الذي أضعنا من أمرك، وتركنا من الحيطة عليك، وحسن النظر لك، حيث قلت ما قلت،؟
وقد تعرف رحمتي بك، ونظري في الأشياء التي تصلحك، قبل أن تخطر على وهمك، فكنت أظنك على تلك النعماء شاكرا، فأصبحت بها كافرا، إذ فرط من قولك ما ألزمتني فيه إضاعتي إياك، وأوجبت علي منه التقصير، لم يزجرك عن ذلك تخوف سخطي، ولم يحجزك دون ذكره سالف نعمتي، ولم يردعك عنه حق أبوتي، فأي ولد أعق منك وأكيد، وقد علمت أني تخطأت الناس كلهم في تقديمك، ونزلتهم لتوليتي إياك، ونصبتك إماما على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم من عرفت، وحاولت منهم ما علمت؟ قال: فتكلم يزيد، وقد خنقه من شدة الحياء الشرق، وأخضله (1) من أليم الوجد العرق. قال: لا تلزمني كفر نعمتك، ولا تنزل بي عقابك، وقد عرفت نعمة مواصلتك ببرك، وخطوي إلى كل ما يسرك، في سري وجهري فليسكن سخطك، فإن الذي أرثى له من أعباء حمله وثقله، أكثر مما أرثى لنفسي، من أليم ما بها وشدته، وسوف أنبئك وأعلمك أمري. كنت قد عرفت من أمير المؤمنين استكمل الله بقاءه، نظرا في خيار الأمور لي، وحرصا على سياقها إلى، وأفضل ما عسيت أستعدله بعد إسلامي المرأة الصالحة، وقد كان ما تحدث به من فضل جمال أرينب بنت إسحاق وكمال أدبها ما قد سطع وشاع في الناس، فوقع مني بموقع الهوى فيها، والرغبة في نكاحها، فرجوت ألا تدع حسن النظر لي في أمرها، فتركت ذلك حتى استنكحها بعلها، فلم يزل ما وقع في خلدي ينمو ويعظم في صدري، حتى عيل صبري، فبحت بسري، فكان مما ذكرت تقصيرك في أمري، فالله يجزيك أفضل من سؤالي وذكري. فقال له معاوية: مهلا يا يزيد، فقال: علام تأمرني بالمهل وقد انقطع منها الأمل؟ فقال له معاوية: فأين حجاك ومروءتك وتقاك؟ فقال يزيد: قد يغلب الهوى على الصبر والحجا، ولو كان أحد ينتفع فيما يبتلي به من الهوى يتقاه، أو يدفع ما أقصده (2) بحجاه، لكان أولى الناس بالصبر داود عليه السلام، وقد خبرك القرآن بأمره.
فقال معاوية: فما منعك قبل الفوت من ذكره؟ قال ما كنت أعرفه، وأثق به من جميل نظرك، قال: صدقت، ولكن اكتم يا بني أمرك بحملك. واستعن بالله على غلبة هواك بصبرك، فإن البوح به غير نافعك، والله بالغ أمره، ولا بد مما هو كائن.