في شهر صفر سنة 626 ه. 1229. وعلى اثر خروجه دخل الرئيس أبو جميل زيان بلنسية ونزل بالقصر، ودعا للخليفة العباسي، واستقبله الشعب بأعظم مظاهر الحماسة والترحيب.
ولبث السيد أبو زيد مدى حين بمقره على مقربة من بلنسية، فلما رأى تطور الأمور على هذا النحو، ولما لم يجد سبيلا إلى استرداد سلطانه، عول على أن يلتجئ إلى خايمي الأول ملك أراجون، وكان يعقد بلاطه يومئذ بقلعة أيوب، فسار اليه ومعه كاتبه ابن الابار.
وهنا تبدأ تلك للصفحات المشجية من حياة ابن الابار الدبلوماسية.
وقد وقفنا في أحد مخطوطات الاسكوريال على هذين البيتين، اللذين أنشدهما ابن الابار حين مغادرته لبلنسية مع مخدومه السيد أبي زيد، وهما:
الحمد لله لا اهل ولا ولد * ولا قرار ولا صبر ولا جلد كان الزمان لنا سلما إلى امد * فعاد حربا لنا لما انقضى الأمد ومنهما يبدو ان ابن الابار، حين مغادرته لبلنسية، كان وحيدا، لا اهل له ولا ولد، ومن ثم كان اقدامه على مشاركة السيد في مغامرته، التي لم يكن يقدر يومئذ مدى خطورتها، وكان ابن الابار يومئذ شابا في عنفوانه، في الحادية والثلاثين من عمره.
والحقيقة ان هذا الأمير الموحدي السيد أبا زيد كان ينوي ان يذهب في ارتمائه في أحضان النصارى، إلى أبعد مدى يمكن تصوره. وكان خايمي الأول ملك أراجون، من جانبه يحاول ان يجتنى لقاء معاونه الأمير المسلم، أقصى ما يمكن اجتناؤه من أشلاء الأندلس. وكانت بلنسية بالذات هي أعز أمانيه، وتاج أطماعه. ومن ثم فقد عقدت بين الأمير الموحدي وملك أراجون، معاهدة صداقة وتحالف، تقضي بان يسلم الأمير الموحدي اليه جزءا مما يفتتحه من الأراضي والحصون الاسلامية، وان يحتفظ الملك خايمي كذلك بكل ما يقوم بافتتاحه هو من الأراضي والحصون لنفسه، وان يسلم اليه السيد أبو زيد عدة حصون وبلاد هامة في منطقة بلنسية رهينة بولائه، وان يقوم ملك أراجون لقاء ذلك بحماية السيد والدفاع عنه ضد أعدائه.
وليست لدينا تفاصيل عن الدور الذي أداه ابن الابار، في عقد هذه المعاهدة. ولكن يبدو لنا من تصرفه اللاحق، انه لم يكن راضيا عن هذا التسليم المزري، الذي عمد اليه السيد أبو زيد، في أراضي الوطن الأندلسي وحصونه، تحقيقا لأطماعه الشخصية. بل يلوح لنا انه كان فوق ذلك على علم بما ينتويه السيد من خطوات لاحقة، أبعد مدى وأشد ايلاما للنفس. ذلك أن ابن الابار ما لبث ان غادر مخدومه السيد أبا زيد، وعاد مسرعا إلى بلنسية، وهناك التحق بخدمة أمير بلنسية الجديد أبي جميل زيان، وتولى منصب كتابته، وكان ابن الابار، قد ظهر في هذا احميدان ببلاغته الأخاذة وبيانه الرائع.
اما السيد أبو زيد، فقد ذهب في مغامراته إلى حد أعناقه، دين النصرانية واتخذ اسما نصرانيا هو بشنتى أو بجنت بالعربية.
وأصبح يسمى في الوثائق النصرانية بثنتي ملك بلنسية وحفيد أمير المؤمنين.
وتجمع الرواية الاسلامية على صحة واقعة تنصر هذا السيد الموحدي، وتنحى عليه بأشد ضروب الانكار واللوم.
ولقد كان ابن الابار صادق الحس، بعيد النظر، حينما ترك مخدومه الضال لمصيره المحزن، ومن المحقق انه نبذ في ذلك كل إغراء، وكل وعود براقة، ولم يقبل ان يتورط لحظة، فيما يعتبره خيانة لوطنه وأمته ودينه.
كانت هذه التجربة الأليمة أول عهد ابن الابار بالمغامرات الدبلوماسية، بيد ان القدر كان يدخره لمهام دبلوماسية أخرى، أشد ايلاما للنفس، وابعث إلى الحسرة والأسى.
ذلك أن صرح الأندلس القديم الشامخ، قد اخذ في تلك الآونة العصبية يهتز ويتداعى. أجل ان قوى الأندلس المفككة، كانت عندئذ تحاول ان تجتمع في الشرق تحت زعامة المتوكل ابن هود، وفي الوسط والجنوب تحت زعامة محمد بن الأحمر، ولكن هذه الزعامات المحلية الجديدة، لم تكن لتستطيع، والفتنة تمزق أوصال الأندلس، ان تصمد بمواردها المحدودة في وجه إسبانيا النصرانية. وكان خايمي الأول ملك أراجون، فراناندو الثالث ملك قشتالة، يرقب كل منهما فرصته، لانتزاع ما يمكن انتزاعه من أشلاء الأندلس الممزقة.
وشاء القدر ان يكون ملك قشتالة هو السابق بانتزاع كبرى قواعد الأندلس التالدة فاستولى على قرطبة عاصمة الخلافة القديمة في شوال سنة 633 ه يونية 1226 م.
واخذ ملك أراجون من جانبه يمهد للاستيلاء على بلنسية، وذلك بانتزاع حصونها الامامية شيئا فشيئا. كل ذلك وزيان أمير بلنسية يقاوم الأرجويين ما استطاع. وأخيرا مزقت قوى البلنسيين في معركة انيشة الحاسمة على مقربة من بلنسية سنة 634 ه.
وامتنع زيان بفلوله داخل الثغر العظيم، وعول ملك أراجون على أن يأخذ بلنسية بالحصار والمطاولة، فجمع جيشا مختارا من فرسان الداوية والاسبتارية والأرجونيين والقطلان والمتطوعة الفرنسيين، وسار إلى بلنسية، وطوقها بقواته من البر، وضرب محلته بينها وبين البحر، لكي يقطع سائر علائقها مع الخارج، وبدأ هذا الحصار الشهير في رمضان سنة 635 ه ابريل 1238 م.
في تلك الآونة العصيبة، اتجهت انظار الأمير زيان، بتوجيه وزيره وكاتبه ابن الابار إلى إخوانه المسلمين في الضفة الأخرى من البحر، إلى مملكة إفريقية تونس الفتية القوية أو مملكة بنى حفص، وكان عاهلها الأمير أبو زكريا بن أبي حفص قد استطاع ان يجعل منها في فترة قصيرة قوة زاخرة يحسب حسابها. وبعث زيان إلى أمير إفريقية سفارة على رأسها وزيره وكاتبه ابن الابار، يحمل اليه بيعته وبيعة اهل بلنسية، وصريحه بسرعة الغوث والأنجاد قبل أن يفوت الوقت، ويسقط الثغر الأندلسي العظيم في أيدي النصارى.
ولما وصل ابن الابار إلى تونس، مثل بين يدي سلطانها الأمير أبي زكريا الحفصي، في حفل مشهود، والقى قصيدته السينية الرائعة، التي اشتهرت في التاريخ، كما اشتهرت في الشعر، يستصرخه فيها لنصرة الأندلس، ونصرة الدين وهذا مطلعها: