وفيه: أن مدلول الأمر إنما هو الإتيان بالمأمور به بعده كما مر في مسألة الفور والتراخي، فلو كان حاصلا حين الأمر كان الإتيان به بعده تحصيلا للحاصل، على أن الوجوب لا يتحقق إلا بتمام الأمر وحصول شرطه، فإما أن يقع الفعل قبله أو بعده، والواسطة بينهما أمر موهوم لا يعقل أن يكون محلا للكلام.
واختلف الحكاية عن الأشاعرة في هذه المسألة فنقل عنهم: أن المأمور إنما يصير مأمورا حال الفعل، فلا أمر قبله بل هو إعلام له بأنه سيصير مأمورا في الزمان الثاني وهو زمان حدوث الفعل، وكأنه المعروف منهم، كما قال التفتازاني:
إن المنقول من مذهب الأشعري في الكتب المشهورة، أن التكليف إنما يتعلق عند المباشرة لا قبلها.
وحكى الآمدي اتفاق الناس على جواز التكليف بالفعل قبل حدوثه قال:
سوى شذوذ من أصحابنا.
واختلفوا في جواز تعلقه به في أول زمان حدوثه فأثبته أصحابنا، ونفاه المعتزلة.
وربما يظهر من العضدي دعوى الاتفاق على ثبوت التكليف بالفعل قبل حدوثه وانقطاعه بعده قال: وهل هو باق حال حدوثه لا ينقطع؟ قال الأشعري به، ومنعه إمام الحرمين والمعتزلة، فهذه وجوه ثلاثة:
الأول: القول بامتناع تقدم التكليف على الفعل فلا بد من مقارنته مع الفعل، فيكون الأوامر السابقة على الفعل محمولة على تعليق التكليف على الفعل، كتعليقه على الشرائط العقلية أو الشرعية فلا يجدي تقدمها شيئا، فيكون الحال فيها كما هو الحال في الأمر المقارن للفعل. ومقتضاه اختصاص التكليف بالمطيع وانتفاؤه في حق العصاة إلا أنهم لا يلتزمون بذلك وإن لزمهم.
وفيه قدح في جميع الشرائع والأديان.
وقد يبنى ذلك على ما ذهب إليه الأشعري: من أن القدرة إنما يوجد مع الفعل فلا يجوز التكليف به قبل حصوله.