قاطعة أمرا حتى تشهدون) أي حتى تحضرون وتشيرون (قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد) أي منوا إليها بعددهم وعددهم وقوتهم ثم فوضوا إليها بعد ذلك الامر فقالوا: (والامر إليك فانظري ماذا تأمرين) أي نحن ليس لنا عاقة ولا بنا بأس إن شئت أن تقصديه وتحاربيه فما لنا عاقة عنه وبعد هذا فالامر إليك مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه قال الحسن البصري رحمه الله فوضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها فلما قالوا لها ما قالوا كانت هي أحزم رأيا منهم وأعلم بأمر سليمان وأنه لا قبل لها بجنوده وجيوشه وما سخر له من الجن والإنس والطير وقد شاهدت من قضية الكتاب مع الهدهد أمرا عجيبا بديعا فقالت لهم إني أخشى أن نحاربه ونمتنع عليه فيقصدنا بجنوده ويهلكنا بمن معه ويخلص إلى وإليكم الهلاك والدمار دون غيرنا، (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها). قال ابن عباس أي إذا دخلوا بلدا عنوة أفسدوه أي خربوه (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) أي وقصدوا من فيها من الولاة والجنود فأهانوهم غاية الهوان إما بالقتل أو بالأسر قال ابن عباس قالت بلقيس (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة) قال الرب عز وجل (وكذلك يفعلون) ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة والمسالمة والمخادعة والمصانعة فقالت (وإني مرسلة إليهم بهدية فناظره بم يرجع المرسلون) أي سأبعث إليه بهدية تليق بمثله وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك فلعله يقبل ذلك منا ويكف عنا أو يضرب علينا خراجا نحمله إليه في كل عام ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا. قال قتادة رحمه الله: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس. وقال ابن عباس وغير واحد قالت لقومها إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.
فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتان الله خير مما آتيكم بل أنتم بهديتكم تفرحون (36) أرجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون (37) ذكر غير واحد من المفسرين من السلف وغيرهم أنها بعثت إليه بهدية عظيمة من ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك وقال بعضهم أرسلت بلبنة من ذهب والصحيح أنها أرسلت إليه بآنية من ذهب: قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما أرسلت جواري في زي الغلمان وغلمان في زي الجواري فقالت إن عرف هؤلاء من هؤلاء فهو نبي قالوا فأمرهم سليمان فتوضؤا فجعلت الجارية تفرغ على يدها من الماء وجعل الغلام يغترف فميزهم بذلك وقيل بل جعلت الجارية تغسل باطن يدها قبل ظاهرها والغلام بالعكس وقيل بل جعلت الجواري يغسلن من أكفهن إلى مرافقهن والغلمان من مرافقهم إلى كفوفهم ولا منافاة بين ذلك كله والله أعلم: وذكر بعضهم أنها أرسلت إليه بقدح ليملأه ماء رواء لا من السماء ولا من الأرض: فأجرى الخيل حتى عرقت ثم ملاه من ذلك وبخرزة وسلك ليجعله فيها ففعل ذلك والله أعلم أكان ذلك أم لا وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات والظاهر أن سليمان عليه السلام لم ينظر إلى ما جاءوا به بالكلية ولا اعتنى به بل أعرض عنه وقال منكرا عليهم (أتمدونن بمال) أي أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم؟ (فما آتاني الله خير مما آتاكم) أي الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه (بل أنتم بهديتكم تفرحون) أي أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الاسلام أو السيف قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه: أمر سليمان الشياطين فموهوا له ألف قصر من ذهب وفضة فلما رأت رسلها ذلك قالوا ما يصنع هذا بهديتنا وفي هذا جواز تهيؤ الملوك وإظهارهم الزينة للرسل والقصاد (ارجع إليهم) أي بهديتهم (فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها) أي لا طاقة لهم بقتالهم (ولنخرجنهم منها أذلة) أي ولنخرجنهم من بلدتهم أذلة (وهم صاغرون) أي مهانون مدحورون فلما رجعت إليها رسلها بهديتها وبما قال سليمان سمعت وأطاعت هي وقومها وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة معظمة لسليمان ناوية متابعته في الاسلام ولما تحقق سليمان عليه السلام قدومهم ووفودهم إليه فرح بذلك وسره.
قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين (38) قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل