فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه.
المسألة الثانية: من في قوله: * (من الملك، ومن تأويل الأحاديث) * للتبعيض، لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا أو بعض ملك مصر وبعض التأويل. قال الأصم: إنما قال من الملك، لأنه كان ذو ملك فوقه.
واعلم أن مراتب الموجودات ثلاثة: المؤثر الذي لا يتأثر وهو الإله تعالى وتقدس، والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجسام، فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة فلا يكون لها تأثير في شيء أصلا، وهذان القسمان متباعدان جدا ويتوسطهما قسم ثالث، وهو الذي يؤثر ويتأثر، وهو عالم الأرواح، فخاصية جوهر الأرواح أنها تقبل الأثر والتصرف عن عالم نور جلال الله، ثم إنها إذا أقبلت على عالم الأجسام تصرفت فيه وأثرت فيه، فتعلق الروح بعالم الأجسام بالتصرف والتدبير فيه، وتعلقه بعالم الإلهيات بالعلم والمعرفة. وقوله تعالى: * (قد آتيتني من الملك) * إشارة إلى تعلق النفس بعالم الأجسام وقوله: * (وعلمتني من تأويل الأحاديث) * إشارة إلى تعلقها بحضرة جلال الله، ولما كان لا نهاية لدرجات هذين النوعين في الكمال والنقصان والقوة والضعف والجلاء والخفاء، امتنع أن يحصل منهما للإنسان إلا مقدار متناه، فكان الحاصل في الحقيقة بعضا من أبعاض الملك، وبعضا من أبعاض العلم، فلهذا السبب ذكر فيه كلمة " من " لأنها دالة على التبعيض، ثم قال: * (فاطر السماوات والأرض) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: في تفسير لفظ الفاطر بحسب اللغة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كنت أدري معنى الفاطر حتى احتكم إلي أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها وأنا ابتدأت حفرها. قال أهل اللغة: أصل الفطر في اللغة الشق يقال: فطر ناب البعير إذ بدا وفطرت الشيء فانفطر، أي شققته فانشق، وتفطر الأرض بالنبات والشجر بالورق إذا تصدعت، هذا أصله في اللغة، ثم صار عبارة عن الإيجاد، لأن ذلك الشيء حال عدمه كأنه في ظلمة وخفاء فلما دخل في الوجود صار كأنه انشق عن العدم وخرج ذلك الشيء منه.
البحث الثاني: أن لفظ الفاطر قد يظن أنه عبارة عن تكوين الشيء عن العدم المحض بدليل الاشتقاق الذي ذكرناه، إلا أن الحق أنه لا يدل عليه ويدل عليه وجوه: أحدها: أنه قال: * (الحمد لله فاطر السماوات والأرض) * (فاطر: 1) ثم بين تعالى أنه إنما خلقها من الدخان حيث قال: * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) * (فصلت: 11) فدل على أن لفظ الفاطر لا يفيد أنه أحدث ذلك الشيء من العدم المحض. وثانيها: أنه قال تعالى: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * (الروم: 30) مع أنه تعالى إنما خلق الناس من التراب. قال تعالى: