أمر أمرت به وتكليف كلفت به، فإن رؤيا الأنبياء حق كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده صار سببا لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظة فكذلك صارت هذه الرؤيا التي رآها يوسف وحكاها ليعقوب سببا لوجوب ذلك السجود، فلهذا السبب حكى ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لما رأى ذلك هاله واقشعر جلده ولكنه لم يقل شيئا، وأقول: لا يبعد أن يكون ذلك من تمام تشديد الله تعالى على يعقوب كأنه قيل له: إنك كنت دائم الرغبة في وصاله ودائم الحزن بسبب فراقه، فإذا وجدته فاسجد له، فكان الأمر بذلك السجود من تمام الشديد. والله أعلم بحقائق الأمور.
البحث الثاني: اختلفوا في مقدار المدة بين هذا الوقت وبين الرؤيا فقيل ثمانون سنة، وقيل: سبعون، وقيل: أربعون، وهو قول الأكثرين، ولذلك يقولون إن تأويل الرؤيا إنما صحت بعد أربعين سنة، وقيل ثماني عشرة سنة وعن الحسن أنه ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وبقي في العبودية والسجون ثمانين سنة، ثم وصل إلى أبيه وأقاربه، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة فكان عمره مائة وعشرين سنة والله أعلم بحقائق الأمور.
ثم قال: * (وقد أحسن بي) * أي إلي يقال: أحسن بي وإليه. قال كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة * لدينا ولا مقلية إن ثقلت إذا أخرجني من السجن ولم يذكر إخراجه من البئر لوجوه: الأول: أنه قال لإخوته * (لا تثريب عليكم اليوم) * ولو ذكر واقعة البئر لكان ذلك تثريبا لهم فكان إهماله جارا مجري الكرم، الثاني: أنه لما خرج من البئر لم يصر ملكا بل صيروه عبدا، أما لما خرج من السجن صيروه ملكا فكان هذا الإخراج أقرب من أن يكون إنعاما كاملا، الثالث: أنه لما أخرج من البئر وقع في المضار الحاصلة بسبب تهمة المرأة فلما أخرج من السجن وصل إلى أبيه وإخوته وزالت التهمة فكان هذا أقرب إلى المنفعة، الرابع: قال الواحدي: النعمة في إخراجه من السجن أعظم لأن دخوله في السجن كان بسبب ذنب هم به، وهذا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع ورغبة النفس، وهذا وإن كان في محل العفو في حق غيره إلا أنه ربما كان سببا للمؤاخذة في حقه لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ثم قال: * (وجاء بكم من البدو) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية قولان:
القول الأول: جاء بكم من البدو أي من البداية، وقال الواحدي: البدو بسيط من الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد وأصله من بدا يبدو بدوا، ثم سمي المكان باسم المصدر فيقال: بدو