* (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) * (طه: 55) وثالثها: أن الشيء إنما يكون حاصلا عند حصول مادته وصورته مثل الكوز، فإنه إنما يكون موجودا إذا صارت المادة المخصوصة موصوفة بالصفة المخصوصة، فعند عدم الصورة ما كان ذلك المجموع موجودا، وبإيجاد تلك الصورة صار موجدا لذلك الكوز فعلمنا أن كونه موجدا للكون لا يقتضي كونه موجدا لمادة الكوز، فثبت أن لفظ الفاطر لا يفيد كونه تعالى موجدا للأجزاء التي منها تركبت السماوات والأرض، وإنما صار إلينا كونه موجدا لها بحسب الدلائل العقلية لا بحسب لفظ القرآن.
واعلم أن قوله: * (فاطر السماوات والأرض) * يوهم أن تخليق السماوات مقدم على تخليق الأرض عند من يقول: الواو تفيد الترتيب، ثم العقل يؤكده أيضا، وذلك لأن تعين المحيط يوجب تعين المركز وتعينه فإنه لا يوجب تعين المحيط، لأنه يمكن أن يحيط بالمركز الواحد محيطات لا نهاية لها، أما لا يمكن أن يحصل للمحيط الواحد إلا مركز واحد بعينه. وأيضا اللفظ يفيد أن السماء كثيرة والأرض واحدة، ووجه الحكمة فيه قد ذكرناه في قوله: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * (الأنعام: 1).
البحث الثالث: قال الزجاج: نصبه من وجهين: أحدهما: على الصفة لقوله: * (رب) * وهو نداء مضاف في موضع النصب. والثاني: يجوز أن ينصب على نداء ثان.
ثم قال: * (أنت ولي في الدنيا والآخرة) * والمعنى: أنت الذي تتولى إصلاح جميع مهماتي في الدنيا والآخرة فوصل الملك الفاني بالملك الباقي، وهذا يدل على أن الإيمان والطاعة كلمة من الله تعالى إذ لو كان ذلك من العبد لكان المتولي لمصالحه هو هو، وحينئذ يبطل عموم قوله: * (أنت وليي في الدنيا والآخرة) *.
ثم قال: * (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حكى عن جبريل عليه السلام عن رب العزة أنه قال: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين " فلهذا المعنى من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم عليه ذكر الثناء على الله فههنا يوسف عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله: * (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض) * ثم ذكر عقيبه الدعاء وهو قوله: * (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) * ونظيره ما فعله الخليل صلوات الله عليه في قوله: * (الذي خلقني فهو يهدين) * (الشعراء: 78) من هنا إلى قوله: * (رب هب لي حكما) * (الشعراء: 83) ثناء على الله ثم قوله: * (رب هب لي) * إلى آخر الكلام دعاء فكذا ههنا.