إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة فكأنه تعالى نهى أولا عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصا لتحصل له تلك الزيادة، وفي الثاني أمر بالسعي في تنقيص مال نفسه ليخرج باليقين عن العهدة وقوله: * (بالقسط) * يعني بالعدل ومعناه الأمر بإيفاء الحق بحيث يحصل معه اليقين بالخروج عن العهدة فالأمر بإيتاء الزيادة على ذلك غير حاصل. ثم قال: * (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) * والبخس هو النقص في كل الأشياء، وقد ذكرنا أن الآية الأولى دلت على المنع من النقص في المكيال والميزان، وهذه الآية دلت على المنع من النقص في كل الأشياء. ثم قال: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) *.
فإن قيل: العثو الفساد التام فقوله: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * جار مجرى أن يقال: ولا تفسدوا في الأرض مفسدين.
قلنا: فيه وجوه: الأول: أن من سعى في إيصال الضرر إلى الغير فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * معناه ولا تسعوا في إفساد مصالح الغير فإن ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم. والثاني: أن يكون المراد من قوله: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * مصالح دنياكم وآخرتكم. والثالث: ولا تعثوا في الأرض مفسدين مصالح الأديان. ثم قال: * (بقية الله خير لكم) * قرىء تقية الله وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي. ثم نقول المعنى: ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف يعني المال الحلال الذي يبقى لكم خير من تلك الزيادة الحاصلة بطريق البخس والتطفيف وقال الحسن: بقية الله أي طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل، لأن ثواب الطاعة يبقى أبدا، وقال قتادة: حظكم من ربكم خير لكم، وأقول المراد من هذه البقية إما المال الذي يبقى عليه في الدنيا، وإما ثواب الله، وأما كونه تعالى راضيا عنه والكل خير من قدر التطفيف، أما المال الباقي فلأن الناس إذا عرفوا إنسانا بالصدق والأمانة والبعد عن الخيانة اعتمدوا عليه ورجعوا في كل المعاملات إليه فيفتح عليه باب الرزق، وإذا عرفوه بالخيانة والمكر انصرفوا عنه ولم يخالطوه البتة فتضيق أبواب الرزق عليه، وأما إن حملنا هذه البقية على الثواب فالأمر ظاهر، لأن كل الدنيا تفنى وتنقرض وثواب الله باق، وأما إن حملناه على حصول رضا الله تعالى فالأمر فيه ظاهر، فثبت بهذا البرهان أن بقية الله خير. ثم قال: * (إن كنتم مؤمنين) * وإنما شرط الإيمان في كونه خيرا لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرين بالثواب والعقاب عرفوا أن السعي في تحصيل الثواب وفي الحذر من العقاب خير لهم من السعي في تحصيل ذلك القليل.
واعلم أن المعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط، فهذه الآية تدل بظاهرها على أن من لم يحترز