* (إلا ما رحم ربي) * قالوا دلت الآية على أن انصراف النفس من الشر لا يكون إلا برحمته؛ ولفظ الآية مشعر بأنه متى حصلت تلك الرحمة حصل ذلك الانصراف. فنقول: لا يمكن تفسير هذه الرحمة بإعطاء العقل والقدرة والألطاف كما قاله القاضي لأن كل ذلك مشترك بين الكافر والمؤمن فوجب تفسيرها بشيء آخر، وهو ترجيح داعية الطاعة على داعية المعصية وقد أثبتنا ذلك أيضا بالبرهان القاطع وحينئذ يحصل منه المطلوب.
قوله تعالى * (وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين * قال اجعلنى على خزآئن الارض إنى حفيظ عليم) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في هذا الملك فمنهم من قال: هو العزيز، ومنهم من قال: بل هو الريان الذي هو الملك الأكبر، وهذا هو الأظهر لوجهين: الأول: أن قول يوسف: * (اجعلني على خزائن الأرض) * يدل عليه. الثاني: أن قوله: * (أستخلصه لنفسي) * يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصا له، وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصا للعزيز، فدل هذا على أن هذا الملك هو الملك الأكبر.
المسألة الثانية: ذكروا أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام وهو في الحبس وقال: " قل اللهم اجعل لي من عندك فرجا ومخرجا وارزقني من حيث لا أحتسب " فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن، وتقرير الكلام: أن الملك عظم اعتقاده في يوسف لوجوه: أحدها: أنه عظم اعتقاده في علمه، وذلك لأنه لما عجز القوم عن الجواب وقدر هو على الجواب الموافق الذي يشهد العقل بصحته مال الطبع إليه، وثانيها: أنه عظم اعتقاده في صبره وثباته، وذلك لأنه بعد أن بقي في السجن بضع سنين لما أذن له في الخروج ما أسرع إلى الخروج بل صبر وتوقف وطلب أولا ما يدل على براءة حاله عن جميع لتهم، وثالثها: أنه عظم اعتقاده في حسن أدبه، وذلك لأنه اقتصر على قوله: * (ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) * (يوسف: 50) وإن كان غرضه ذكر امرأة العزيز فستر ذكرها، وتعرض لأمر سائر النسوة مع أنه وصل إليه من جهتها أنواع عظيمة من البلاء