تقديم الوحي تأنيسه وتسكين نفسه وإزالة الغم والوحشة عن قلبه.
المسألة الثانية: في قوله: * (وهم لا يشعرون) * قولان: الأول: المراد أن الله تعالى أوحى إلى يوسف إنك لتخبرن إخوتك بصنيعهم بعد هذا اليوم وهم لا يشعرون في ذلك الوقت إنك يوسف، والمقصود تقوية قلبه بأنه سيحصل له الخلاص عن هذه المحنة ويصير مستوليا عليهم ويصيرون تحت قهره وقدرته. وروي أنهم حين دخلوا عليه لطلب الحنطة وعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده، ثم نقره فظن، فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف فطرحتموه في البئر وقلتم لأبيكم أكله الذئب. والثاني: أن المراد إنا أوحينا إلى يوسف عليه السلام في البئر بأنك تنبئ إخوتك بهذه الأعمال، وهم ما كانوا يشعرون بنزول الوحي عليه، والفائدة في إخفاء نزول ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله.
المسألة الثالثة: إذا حملنا قوله: * (وهم لا يشعرون) * على التفسير الأول، كان هذا أمرا من الله تعالى نحو يوسف في أن يستر نفسه عن أبيه وأن لا يخبره بأحوال نفسه، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه طول تلك المدة، مع علمه بوجد أبيه به خوفا من مخالفة أمر الله تعالى، وصبر على تجرع تلك المرارة، فكان الله سبحانه وتعالى قد قضى على يعقوب عليه السلام أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليكثر رجوعه إلى الله تعالى، وينقطع تعلق فكره عن الدنيا فيصل إلى درجة عالية في العبودية لا يمكن الوصول إليها إلا بتحمل المحن الشديدة. والله أعلم.
قوله تعالى * (وجآءوا أباهم عشآء يبكون * قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ومآ أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجآءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) *.
اعلم أنهم لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء باكين ورواه ابن جني