بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال: إنه كان من المحسنين، فههنا لزم إما تكذيب الله في حكمه على يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق.
ثم قال تعالى: * (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) * وفيه مسائل:
المسألة الأول: في تفسير هذه الآية قولان:
القول الأول: المراد منه أن يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل وجهات الترجيح قد ذكرناها في هذا الكتاب مرارا وأطوارا، وحاصل تلك الوجوه أن الخير المطلق هو الذي يكون نفعا خالصا دائما مقرونا بالتعظيم، وكل هذه القيود الأربعة حاصلة في خيرات الآخرة ومفقودة في خيرات الدنيا.
القول الثاني: أن لفظ الخير قد يستعمل لكون أحد الخيرين أفضل من الآخر كما يقال: الجلاب خير من الماء وقد يستعمل لبيان كونه في نفسه خيرا من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل كما يقال: الثريد خير من الله يعني الثريد خير من الخيرات حصل بإحسان من الله.
إذا ثبت هذا فقوله: * (ولأجر الآخرة خير) * إن حملناه على الوجه الأول لزم أن تكون ملاذ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضا، وأما إن حملناه على الوجه الثاني لزم أن لا يقال إن منافع الدنيا أيضا خيرات بل لعله يفيد أن خير الآخرة هو الخير، وأما ما سواه فعبث.
المسألة الثانية: لا شك أن المراد من قوله: * (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) * شرح حال يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وهذا تنصيص من الله عز وجل. على أنه كان في الزمان السابق من المتقين، وليس ههنا زمان سابق ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله فيه: * (ولقد همت به وهم بها) * (يوسف: 24) فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين، وأيضا قوله: * (ولا نضيع أجر المحسنين) * شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان من المحسنين، وقوله: * (إنه من عبادنا المخلصين) * شهادة من الله تعالى على أنه من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين، والجاهل الحشوي يقول: إنه كان من الأخسرين المذنبين، ولا شك أن من لم يقل بقول الله سبحانه وتعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين.