أما قوله: * (وما شهدنا إلا بما علمنا) * فمعناه ظاهر لأنه يدل على أن الشهادة غير العلم بدليل قوله تعالى: * (وما شهدنا إلا بما علمنا) * وذلك يقتضي كون الشهادة مغايرة للعلم ولأنه عليه السلام قال: إذا علمت مثل الشمس فاشهد، وذلك أيضا يقتضي ما ذكرنا وليست الشهادة أيضا عبارة عن قوله أشهد لأن قوله أشهد إخبار عن الشهادة والإخبار عن الشهادة غير الشهادة. إذا ثبت هذا فنقول: الشهادة عبارة عن الحكم الذهني وهو الذي يسميه المتكلمون بكلام النفس، وأما قوله: * (وما كنا للغيب حافظين) * ففيه وجوه: الأول: أنا قد رأينا أنهم أخرجوا الصواع من رحله، وأما حقيقة الحال فغير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله. والثاني: قال عكرمة معناه: لعل الصواع دس في متاعه بالليل، فإن الغيب اسم لليل على بعض اللغات. والثالث: قال مجاهد والحسن وقتادة: وما كنا نعلم أن ابنك يسرق، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به إلى الملك وما أعطيناك موثقا من الله في رده إليك. والرابع: نقل أن يعقوب عليه السلام قال لهم: فهب أنه سرق ولكن كيف عرف الملك أن شرع بني إسرائيل أن من سرق يسترق، بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم فقالوا عند هذا الكلام: أنا قد ذكرنا له هذا الحكم قبل وقوعنا في هذه الواقعة وما كنا نعلم أن هذه الواقعة نقع فيها فقوله: * (وما كنا للغيب حافظين) * إشارة إلى هذا المعنى.
فإن قيل: فهل يجوز من يعقوب عليه السلام أن يسعى في إخفاء حكم الله تعالى على هذا القول.
قلنا: لعله كان ذلك الحكم مخصوصا بما إذا كان المسروق منه مسلما فلهذا أنكر ذكر هذا الحكم عند الملك الذي ظنه كافرا.
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا: * (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها) *.
واعلم أنهم لما كانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه السلام بالغوا في إزالة التهمة عن أنفسهم فقالوا: * (واسأل القرية التي كنا فيها) * والأكثرون اتفقوا على أن المراد من هذه القرية مصر وقال قوم، بل المراد منه قرية على باب مصر جرى فيها حديث السرقة والتفتيش، ثم فيه قولان: الأول: المراد واسأل أهل القرية إلا أنه حذف المضاف للإيجاز والاختصار، وهذا النوع من المجاز مشهور في لغة العرب قال أبو علي الفارسي ودافع جواز هذا في اللغة كدافع الضروريات وجاحد المحسوسات. والثاني: قال أبو بكر الأنباري المعنى: اسأل القرية والعير والجدار والحيطان فإنها تجيبك وتذكر لك صحة ما ذكرناه لأنك من أكابر أنبياء الله فلا يبعد أن ينطق الله هذه الجمادات معجزة لك حتى تخبر بصحة ما ذكرناه، وفيه وجه ثالث، وهو أن الشيء إذا ظهر ظهورا تاما كاملا فقد يقال فيه، سل السماء والأرض وجميع الأشياء عنه، والمراد أنه بلغ في الظهور إلى الغاية التي