الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان، فخالق تلك القدرة يكون مريدا للكفر، وإن كانت صالحة للإيمان، فخالق تلك القدرة يكون مريدا للكفر، وإن كانت صالحة للإيمان امتنع صدور الكفر عنها بدلا عن الإيمان إلا عند حدوث داعية جازمة، فخالق تلك الداعية الجازمة يكون مريدا للكفر، فثبت أن على جميع التقادير: لا يملك العبد لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله.
أجاب القاضي عنه بوجوه: الأول: أن ظاهر قوله: * (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله) * وإن كان عاما بحسب اللفظ إلا أنا ذكرنا أن سبب نزوله هو أن الكفار قالوا: يا محمد ألا يخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو، حتى نشتري الرخيص فنربح عليه عند الغلاء، فيحمل اللفظ العام على سبب نزوله، والمراد بالنفع: تملك الأموال وغيرها، والمراد بالضر وقت القحط، والأمراض وغيرها. الثاني: المراد لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا فيما يتصل بعلم الغيب، والدليل على أن المراد ذلك قوله: * (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) * الثالث: المراد: لا أملك لنفسي من الضر والنفع إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه، والمقصود من هذا الكلام بيان أنه لا يقدر على شيء إلا إذا أقدره الله عليه.
واعلم أن هذه الوجوه بأسرها عدول عن ظاهر اللفظ، وكيف يجوز المصير إليه مع أنا أقمنا البرهان القاطع العقلي على أن الحق ليس إلا ما دل عليه ظاهر لفظ هذه الآية، والله أعلم.
المسألة الثالثة: احتج الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم علمه بالغيب بقوله: * (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) * واختلفوا في المراد من هذا الخير. فقيل المراد منه: جلب منافع الدنيا وخيراتها، ودفع آفاتها ومضراتها، ويدخل فيه ما يتصل بالخصب والجدب والأرباح والأكساب. وقيل: المراد منه ما يتصل بأمر الدين، يعني: لو كنت أعلم الغيب كنت أعلم أن الدعوى إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في ذاك، فكيف اشتغل بدعوة هذا دون ذاك. وقيل: المراد منه: ما يتصل بالجواب عن السؤالات، والتقدير: لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير.
والجواب: عن هذه المسائل التي سألوه عنها مثل السؤال عن وقت قيام الساعة وغيره.
أما قوله: * (وما مسني السوء) * ففيه قولان:
القول الأول: قال الواحدي رحمه الله: تم الكلام عند قوله: * (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) * ثم قال: * (وما مسني السوء) * أي ليس بي جنون، وذلك لأنهم نسبوه إلى الجنون كما ذكرنا في قوله: