كان مشروطا بكون العشرين قادرين على الصبر في مقابلة المائتين، وقوله: * (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) * يدل على أن ذلك الشرط غير حاصل في حق هؤلاء، فصار حاصل الكلام أن الآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص، وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ البتة.
فإن قالوا: قوله: * (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) * معناه: ليكن العشرون الصابرون في مقابلة المائتين، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم.
قلنا: لم لا يجوز أن يقال إن المراد من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين، فليشتغلوا بجهادهم؟ والحاصل أن لفظ الآية ورد على صورة الخبر خالفنا هذا الظاهر وحملناه على الأمر، أما في رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره، وتقديره إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين فليشتغلوا بمقاومتهم، وعلى هذا التقدير فلا نسخ.
فإن قالوا: قوله: * (الآن خفف الله عنكم) * مشعر بأن هذا التكليف كان متوجها عليهم قبل هذا التكليف.
قلنا: لا نسلم أن لفظ التخفيف يدل على حصول التثقيل قبله، لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام، كقوله تعالى عند الرخصة للحر في نكاح الأمة * (يريد الله أن يخفف عنكم) * (النساء: 28) وليس هناك نسخ وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر، فكذا ههنا. وتحقيق القول أن هؤلاء العشرين كانوا في محل أن يقال إن ذلك الشرط حاصل فيهم، فكان ذلك التكليف لازما عليهم، فلما بين الله أن ذلك الشرط غير حاصل وأنه تعالى علم أن فيهم ضعفاء لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك الخوف، فصح أن يقال خفف الله عنكم، ومما يدل على عدم النسخ أنه تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى، وجعل الناسخ مقارنا للمنسوخ لا يجوز.
فإن قالوا: العبرة في الناسخ والمنسوخ بالنزول دون التلاوة فإنها قد تتقدم وقد تتأخر، ألا ترى أن في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ.
قلنا: لما كان كون الناسخ مقارنا للمنسوخ غير جائز في الوجود، وجب أن لا يكون جائزا في الذكر، اللهم إلا لدليل قاهر وأنتم ما ذكرتم ذلك، وأما قوله في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ فنقول: إن أبا مسلم ينكر كل أنواع النسخ في القرآن فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه؟ فهذا تقرير قول أبي مسلم. وأقول: إن ثبت إجماع الأمة على الإطلاق قبل أبي مسلم على حصول هذا النسخ فلا كلام عليه، فإن لم يحصل هذا الإجماع القاطع فنقول: قول أبي مسلم صحيح حسن.
المسألة الثانية: احتج هشام على قوله إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها بقوله: