من أنواع النصرة ما لا يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة، ومنها ما يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة. فلهذا الفرق اعتبر نصرة المؤمنين، ثم بين أنه تعالى وإن كان يكفيك بنصره وبنصر المؤمنين، فليس من الواجب أن تتكل على ذلك إلا بشرط أن تحرض المؤمنين على القتال فإنه تعالى إنما يكفيك بالكفاية بشرط أن يحصل منهم بذل النفس والمال في المجاهدة. فقال: * (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) * والتحريض في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء، وذكر الزجاج في اشتقاقه وجها آخر بعيدا، فقال: التحريض في اللغة أن يحث الإنسان غيره على شيء حثا يعلم منه أنه إن تخلف عنه كان حارضا، والحارض الذي قارب الهلاك، أشار بهذا إلى أن المؤمنين لو تخلفوا عن القتال بعد حث النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا حارضين، أي هالكين. فعنده التحريض مشتق من لفظ الحارض والحرض.
ثم قال: * (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) * وليس المراد منه الخبر بل المراد الأمر كأنه قال: * (إن يكن منكم عشرون) * فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى * (يغلبوا مائتين) * والذي يدل على أنه ليس المراد من هذا الكلام الخبر وجوه: الأول: لو كان المراد منه الخبر، لزم أن يقال: إنه لم يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين، ومعلوم أنه باطل. الثاني: أنه قال * (الآن خفف الله عنكم) * (الأنفال: 66) والنسخ أليق بالأمر منه بالخبر. الثالث: قوله من بعد: * (والله مع الصابرين) * (الأنفال: 66) وذلك ترغيبا في الثبات على الجهاد، فثبت أن المراد من هذا الكلام هو الأمر وإن كان واردا بلفظ الخبر، وهو كقوله تعالى: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * (البقرة: 233) * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن) * (البقرة: 228) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (إن يكن منكم عشرون صابرون) * يدل على أنه تعالى ما أوجب هذا الحكم إلا بشرط كونه صابرا قاهرا على ذلك، وإنما يحصل هذا الشرط عند حصول أشياء؛ منها: أن يكون شديد الأعضاء قويا جلدا، ومنها: أن يكون قوي القلب شجاعا غير جبان، ومنها: أن يكون غير منحرف إلا لقتال أو متحيزا إلى فئة، فإن الله استثنى هاتين الحالتين في الآيات المتقدمة فعند حصول هذه الشرائط كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة.
واعلم أن هذا التكليف إنما حسن لأنه مسبوق بقوله تعالى: * (حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلا لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه.
المسألة الثانية: قوله: * (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة