يغلبوا ألفا من الذين كفروا) * حاصله وجوب ثبات الواحد في مقابلة العشرة، فما الفائدة في العدول عن هذه اللفظة الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة؟
وجوابه أن هذا الكلام إنما ورد على وفق الواقعة، وكان رسول الله يبعث السرايا، والغالب أن تلك السرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين وما كانت تزيد على المائة، فلهذا المعنى ذكر الله هذين العددين.
المسألة الثالثة: قرأ نافع وابن كثير وابن عامر * (إن تكن) * بالتاء، وكذلك الذي بعده * (وإن تكن منكم مائة صابرة) * وقرأ أبو عمرو الأول بالياء والثاني بالتاء والباقون بالياء فيهما.
المسألة الرابعة: أنه تعالى بين العلة في هذه الغلبة، وهو قوله: * (بأنهم قوم لا يفقهون) * وتقرير هذا الكلام من وجوه:
الوجه الأول: أن من لا يؤمن بالله ولا يؤمن بالمعاد، فإن غاية السعادة والبهجة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية. ومن كان هذا معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا يعرضها للزوال، أما من اعتقد أنه لا سعادة في هذه الحياة وأن السعادة لا تحصل إلا في الدار الآخرة فإنه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا ولا يلتفت إليها ولا يقيم لها وزنا، فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح، ومتى كان الأمر كذلك، كان الواحد من هذا الباب يقاوم العدد الكثير من الباب الأول.
الوجه الثاني: أن الكفار إنما يعولون على قوتهم وشوكتهم، والمسلمون يستعينون بربهم بالدعاء والتضرع، ومن كان كذلك كان النصر والظفر به أليق وأولى.
الوجه الثالث: وهو وجه لا يعرفه إلا أصحاب الرياضات والمكاشفات، وهو أن كل قلب اختص بالعلم والمعرفة كان صاحبه مهيبا عند الخلق، ولذلك إذا حضر الرجل العالم عند عالم من الناس الأقوياء الجهال الأشداء، فإن أولئك الأقوياء الأشداء الجهال يهابون ذلك العالم ويحترمونه ويخدمونه، بل نقول: إن السباع القوية إذا رأت الآدمي هابته وانحرفت عنه، وما ذاك إلا أن الآدمي بسبب ما فيه من نور العقل يكون مهيبا، وأيضا الرجل الحكيم إذا استولى على قلبه نور معرفة الله تعالى، فإنه تقوى أعضاؤه وتشتد جوارحه، وربما قوي عند ظهور التجلي في قلبه على أعمال يعجز عنها قبل ذلك الوقت. إذا عرفت هذا فالمؤمن إذا أقدم على الجهاد فكأنه بذل نفسه وماله في طلب رضوان الله. فكان في هذه الحالة كالمشاهد لنور جلال الله فيقوى قلبه وتكمل روحه ويقدر على ما لا يقدر غيره عليه، فهذه أحوال من باب المكاشفات تدل على أن المؤمن يجب أن يكون أقوى قوة من الكافر