فإن قيل: فأي هذه الوجوه الثلاثة أولى؟
قلنا: قوله: * (ليطهركم) * معناه ليزيل الجنابة عنكم، فلو حملنا قوله: * (ويذهب عنكم رجز الشيطان) * على الجنابة لزم منه التكرير وأنه خلاف الأصل، ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد من قوله: * (ليطهركم) * حصول الطهارة الشرعية. والمراد من قوله: * (ويذهب عنكم رجز الشيطان) * إزالة جوهر المني عن أعضائهم فإنه شيء مستخبث، ثم تقول: حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة وذلك لأن تأثير الماء في إزالة العين عن العضو تأثير حقيقي أما تأثيره في إزالة الوسوسة عن القلب فتأثير مجازي وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، واعلم أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه لزم القطع بأن المني رجز الشيطان، وذلك يوجب الحكم بكونه نجسا مطلقا لقوله تعالى: * (والرجز فاهجر) * (المدثر: 5).
النوع الثالث: من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: * (وليربط على قلوبكم) * والمراد أن بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوف والفزع عنهم، ومعنى الربط في اللغة الشد، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى: * (ورابطوا) * (آل عمران: 200) ويقال لكل من صبر على أمر، ربط قلبه عليه كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب يقال: رجل رابط أي حابس. قال الواحدي: ويشبه أن يكون * (على) * ههنا صلة والمعنى - وليربط قلوبكم بالنصر - وما وقع من تفسيره يشبه أن لا يكون صلة لأن كلمة * (على) * تفيد الاستعلاء. فالمعنى أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها.
والنوع الرابع: من النعم المذكورة ههنا قوله تعالى: * (ويثبت به الأقدام) * وذكروا فيه وجوها: أحدها: أن ذلك المطر لبد ذلك الرمل وصيره بحيث لا تغوص أرجلهم فيه، فقدروا على المشي عليه كيف أرادوا، ولولا هذا المطر لما قدروا عليه، وعلى هذا التقدير، فالضمير في قوله: * (به) * عائد إلى المطر. وثانيها: أن المراد أن ربط قلوبهم أوجب ثبات أقدامهم، لأن من كان قلبه ضعيفا فر ولم يقف، فلما قوى الله تعالى قلوبهم لا جرم ثبت أقدامهم، وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله: * (به) * عائد إلى الربط. وثالثها: روى أنه لما نزل المطر حصل للكافرين ضد ما حصل للمؤمنين، وذلك لأن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب والوحل، فلما نزل المطر عظم الوحل، فصار ذلك مانعا لهم من المشي كيفما أرادوا فقوله: * (ويثبت به الأقدام) * يدل دلالة المفهوم على أن حال الأعداء كانت بخلاف ذلك.
النوع الخامس: من النعم المذكورة ههنا قوله: * (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم) * وفيه بحثان: الأول: قال الزجاج: * (إذ) * في موضع نصب، والتقدير: وليربط على قلوبكم ويثبت به