الكثيرة دفعة واحدة غير ممكنة. وبتقدير أن تكون ممكنة هي غير باقية وبتقدير أن تكون باقية هي شاغلة عن الله تعالى. ألا ترى أنه تعالى مدح محمدا عليه الصلاة والسلام في ترك هذه الرؤية فقال: * (ما زاغ البصر وما طغى) * (النجم: 17) فثبت بجملة هذه الدلائل أن تلك الإراءة كانت إراءة بحسب بصيرة العقل، لا بحسب البصر الظاهر.
فإن قيل: فرؤية القلب على هذا التفسير حاصلة لجميع الموحدين فأي فضيلة تحصل لإبراهيم بسببها.
قلنا: جميع الموحدين وإن كانوا يعرفون أصل هذا الدليل إلا أن الاطلاع على آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذا العالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وأحوالها مما لا يحصل إلا للأكابر من الأنبياء عليهم السلام. ولهذا المعنى كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه: " اللهم أرنا الأشياء كما هي " فزال هذا الإشكال. والله أعلم.
المسألة الرابعة: اختلفوا في " الواو " في قوله: * (وليكون من الموقنين) * وذكروا فيه وجوها: الأول: الواو زائدة والتقدير: نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليستدل بها ليكون من الموقنين. الثاني: أن يكون هذا كلاما مستأنفا لبيان علة الإراءة والتقدير وليكون من الموقنين نريه ملكوت السماوات والأرض. الثالث: أن الإراءة قد تحصل وتصير سببا لمزيد الضلال كما في حق فرعون قال تعالى: * (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى) * (طه: 56) وقد تصير سببا لمزيد الهداية واليقين. فلما احتملت الإراءة هذين الاحتمالين قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: إنا أريناه هذه الآيات ليراها ولأجل أن يكون من الموقنين لا من الجاحدين والله أعلم.
المسألة الخامسة: اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقينا لأن علمه غير مسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل. واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سببا لحصول اليقين وذلك لوجوه: الأول: أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة فلا تزال القوة تتزايد حتى ننتهي إلى الجزم. الثاني: أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد جار مجرى تكرار الدرس الواحد، فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب، فكذا ههنا. الثالث: أن القلب عند الاستدلال كان مظلما جدا فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب، فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة، فإذا حصل الاستدلال