الأفعال من تلك الجارحة المخصوصة جاريا مجرى الشهادة لحصول تلك الآثار المخصوصة في جوهر النفس، وأما الحساب: فالمقصود منه معرفة ما بقي من الدخل والخرج، ولما بينا أن لكل ذرة من أعمال الخير والشر أثرا في حصول هيئة من هذه الهيئات في جوهر النفس، إما من الهيئات الزاكية الطاهرة أو من الهيئات المذمومة الخسيسة، ولا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة. فلا جرم كان بعضها يتعارض بالبعض، وبعد حصول تلك المعارضات بقي في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد، وقدر آخر من الخلق الذميم، فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك الخلق الحميد، ومقدار ذلك الخلق الذميم، وذلك الظهور إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم، وهو الآن الذي فيه ينقطع تعلق النفس من البدن، فعبر عن هذه الحالة بسرعة الحساب، فهذه أقوال ذكرت في تطبيق الحكمة النبوية على الحكمة الفلسفية، والله العالم بحقائق الأمور.
قوله تعالى * (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) *.
اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية، وكمال الرحمة والفضل والإحسان. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي * (قل من ينجيكم) * بالتشديد في الكلمتين، والباقون بالتخفيف. قال الواحدي: والتشديد والتخفيف لغتان منقولتان من نجا، فن شئت نقلت بالهمزة، وإن شئت نقلت بتضعيف العين: مثل: أفرحته وفرحته، وأغرمته وغرمته، وفي القرآن * (فأنجيناه والذين معه) * (الأعراف: 72) وفي آية أخرى * (ونجينا الذين آمنوا) * (فصلت: 18) ولما جاء التنزيل باللغتين معا ظهر استواء القراءتين في الحسن، غير أن الاختيار التشديد، لأن ذلك من الله كان غير مرة، وأيضا قرأ عاصم في رواية أبي بكر خفية بكسر الخاء والباقون بالضم، وهما لغتان، وعلى هذا الاختلاف في سورة الأعراف، وعن الأخفش في خفية وخفية أنهما لغتان، وأيضا الخفية من الإخفاء،