الممكنات. ومثل هذه الحالة لا يحصل للإنسان بسببها استحقاق المدح والتعظيم. ألا ترى أن الكفار في الآخرة يعرفون الله تعالى بالضرورة وليس لهم في تلك المعرفة مدح ولا ثواب. وأما الاستدلال بصفات المخلوقات على وجود الصانع وقدرته وحكمته فذاك هو الذي يفيد المدح والتعظيم.
والحجة الخامسة: أنه تعالى كما قال في حق إبراهيم عليه السلام * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) * فكذلك قال في حق هذه الأمة: * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * (فصلت: 53) فكما كانت هذه الإراءة بالبصيرة الباطنة لا بالبصر الظاهر فكذلك في حق إبراهيم لا يبعد أن يكون الأمر كذلك.
الحجة السادسة: أنه عليه السلام لما تمم الاستدلال بالنجم والقمر والشمس قال بعده: * (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) * (الأنعام: 79) فحكم على السماوات والأرض بكونها مخلوقة لأجل الدليل الذي ذكره في النجم والقمر والشمس. وذلك الدليل لو لم يكن عاما في كل السماوات والأرض لكان الحكم العام بناء على دليل خاص وأنه خطأ، فثبت أن ذلك الدليل كان عاما فكان ذكر النجم والقمر والشمس كالمثال لإراءة الملكوت. فوجب أن يكون المراد من إراءة الملكوت تعريف كيفية دلالتها بحسب تغيرها وإمكانها وحدوثها على وجود الإله العالم القادر الحكيم فتكون هذه الإراءة بالقلب لا بالعين.
الحجة السابعة: أن اليقين عبارة عن العلم المستفاد بالتأمل إذا كان مسبوقا بالشك وقوله تعالى: * (وليكون من الموقنين) * كالغرض من تلك الإراءة فيصير تقدير الآية نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض لأجل أن يصير من الموقنين. فلما كان اليقين هو العلم المستفاد من الدليل، وجب أن تكون تلك الإراءة عبارة عن الاستدلال.
الحجة الثامنة: أن جميع مخلوقات الله تعالى دالة على وجود الصانع وقدرته باعتبار واحد وهو أنها محدثة ممكنة وكل محدث ممكن فهو محتاج إلى الصانع. وإذا عرف الإنسان هذا الوجه الواحد فقد كفاه ذلك في الاستدلال على الصانع وكأنه بمعرفة هاتين المقدمتين قد طالع جميع الملكوت بعين عقله وسمع بأذن عقله شهادتها بالاحتياج والافتقار وهذه الرؤية رؤية باقية غير زائلة البتة. ثم إنها غير شاملة عن الله تعالى بل هي شاغلة للقلب والروح بالله. أما رؤية العين فالإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال. ألا ترى أن من نظر إلى صحيفة مكتوبة فإنه لا يرى من تلك الصحيفة رؤية كاملة تامة إلا حرفا واحدا فإن حدق نظره إلى حرف آخر وشغل بصره به صار محروما عن إدراك الحرف الأول، أو عن إبصاره. فثبت أن رؤية الأشياء