منه الخزائن، أما على التقدير الأول. فقد جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة لأن المفاتيح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال فالعالم بتلك المفاتيح وكيفية استعمالها في فتح تلك الأغلاق والأقفال يمكنه أن يتوصل بتلك المفاتيح إلى ما في تلك الخزائن فكذلك ههنا الحق سبحانه لما كان عالما بجميع المعلومات عبر عن هذا المعنى بالعبارة المذكورة وقرئ * (مفاتيح) * وأما على التقدير الثاني فالمعنى وعنده خزائن الغيب. فعلى التقدير الأول يكون المراد العلم بالغيب، وعلى التقدير الثاني المراد منه القدرة على كل الممكنات في قوله: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) * (الحجر: 21) وللحكماء في تفسير هذه الآية كلام عجيب مفرع على أصولهم فإنهم قالوا: ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول وأن العلم بالمعلول لا يكون علة للعلم بالعلة. قالوا: وإذا ثبت هذا فنقول: الموجود إما أن يكون واجبا لذاته، وإما أن يكون ممكنا لذاته، والواجب لذاته ليس إلا الله سبحانه وتعالى. وكل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بتأثير الواجب لذاته وكل ما سوى الحق سبحانه فهو موجود بإيجاده كائن بتكوينه واقع بإيقاعه. إما بغير واسطة وإما بواسطة واحدة وإما بوسائط كثيرة على الترتيب النازل من عنده طولا وعرضا. إذا ثبت هذا فنقول: علمه بذاته يوجب عمله بالأثر الأول الصادر منه، ثم علمه بذلك الأثر الأول يوجب عمله بالأثر الثاني لأن الأثر الأول علة قريبة للأثر الثاني. وقد ذكرنا أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فبهذا علم الغيب ليس إلا علم الحق بذاته المخصوصة ثم يحصل له من علمه بذاته علمه بالآثار الصادرة عنه على ترتيبها المعتبر، ولما كان علمه بذاته لم يحصل إلا لذاته لا جرم صح أن يقال: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * فهذا هو طريقة هؤلاء الفرقة الذين فسروا هذه الآية بناء على هذه الطريقة.
ثم اعلم أن ههنا دقيقة أخرى، وهي: أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن قضايا الحس والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة، ومثل هذا الإنسان يكون كالنادر وقوله: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * قضية عقلية محضة مجردة فالإنسان الذي يقوى عقله على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جدا. والقرآن إنما أنزل لينتفع به جميع الخلق. فههنا طريق آخر وهو أن من ذكر القضية العقلية المحضة المجردة، فإذا أراد إيصالها إلى عقل كل أحد ذكر لها مثالا من الأمور المحسوسة الداخلة تحت القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهوما لكل أحد، والأمر في هذه الآية ورد على هذا القانون، لأنه قال أولا: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها