واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه ينيمهم أولا ثم يوقظهم ثانيا كان ذلك جاريا مجرى الإحياء بعد الإماتة، لا جرم استدل بذلك على صحة البعث والقيامة. فقال: * (ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون) * في ليلكم ونهاركم وفي جميع أحوالكم وأعمالكم.
قوله تعالى * (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جآء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين) *.
اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته. وتقريره أنا بينا فيما سبق أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية الفوقية بالمكان والجهة بل يجب أن يكون المراد منها الفوقية بالقهر والقدرة، كما يقال أمر فلان فوق أمر فلان بمعنى أنه أعلى وأنفذ ومنه قوله تعالى: * (يد الله فوق أيديهم) * (الفتح: 10) ومما يؤكد أن المراد ذلك أن قوله: * (وهو القاهر فوق عباده) * مشعر بأن هذا القهر إنما حصل بسبب هذه الفوقية، والفوقية المفيدة لصفة القهر هي الفوقية بالقدرة لا الفوقية بالجهة، إذ المعلوم أن المرتفع في المكان قد يكون مقهورا. وتقرير هذا القهر من وجوه: الأول: إنه قهار للعدم بالتكوين والإيجاد، والثاني:
أنه قهار للوجود بالإفناء والإفساد فإنه تعالى هو الذي ينقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى. فلا وجود إلا بإيجاده ولا عدم إلا بإعدامه في الممكنات. والثالث: أنه قهار لكل ضده بضده فيقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور، والنهار بالليل والليل بالنهار. وتمام تقريره في قوله: * (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء) * (آل عمران: 26).
وإذا عرفت منهج الكلام. فاعلم أنه بحر لا ساحل له لأن كل مخلوق فله ضد، فالفوق ضده التحت، والماضي ضده المستقبل، والنور ضده الظلمة، والحياة ضدها الموت، والقدرة ضدها العجز. وتأمل في سائل الأحوال والصفات لتعرف أن حصول التضاد بينها يقضي عليها بالمقهورية والعجز والنقصان، وحصول هذه الصفات في الممكنات يدل على أن لها مدبرا قادرا قاهرا منزها عن الضد والند، مقدسا عن الشبيه والشكل. كما قال: * (وهو القاهر فوق عباده) * والرابع: أن هذا