أن يقال: وكذلك أرينا إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، فلم عدل عن هذه اللفظة إلى قوله * (وكذلك نرى) *.
قلنا: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن يكون تقدير الآية، وكذلك كنا نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، فيكون هذا على سبيل الحكاية عن الماضي. والمعنى أنه تعالى لما حكى عنه أنه شافه أباه الكلام الخشن تعصبا للدين الحق. فكأنه قيل: وكيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ العظيم في قوة الدين، فأجيب بأنا كنا نريه ملكوت السماوات والأرض من وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه. الوجه الثاني في الجواب: وهو أعلى وأشرف مما تقدم، وهو أنا نقول: إنه ليس المقصود من إراءة الله إبراهيم ملكوت السماوات والأرض هو مجرد أن يرى إبراهيم هذا الملكوت، بل المقصود أن يراها فيتوسل بها إلى معرفة جلال الله تعالى وقدسه وعلوه وعظمته. ومعلوم أن مخلوقات الله وإن كانت متناهية في الذوات وفي الصفات، إلا أن جهات دلالاتها على الذوات والصفات غير متناهية. وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر ضياء الدين رحمه الله تعالى قال: سمعت الشيخ أبا القاسم الأنصاري يقول: سمعت إمام الحرمين يقول: معلومات الله تعالى غير متناهية، ومعلوماته في كل واحد من تلك المعلومات أيضا غير متناهية، وذلك لأن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، ويمكن إنصافه بصفات لا نهاية لها على البدل، وكل تلك الأحوال التقديرية دالة على حكمة الله تعالى وقدرته أيضا، وإذا كان الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ كذلك؛ فكيف القول في كل ملكوت الله تعالى، فثبت أن دلالة ملك الله تعالى، وملكوته على نعوت جلاله وسمات عظمته وعزته غير متناهية، وحصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال، فإذن لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها عقيب البعض لا إلى نهاية ولا إلى آخر في المستقبل، فلهذا السبب والله أعلم لم يقل، وكذلك أريناه ملكوت السماوات والأرض، بل قال: * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت والأرض) * وهذا هو المراد من قول المحققين السفر إلى الله له نهاية، وأما السفر في الله فإنه لا نهاية له والله أعلم.
المسألة الثالثة: * (الملكوت) * هو الملك، و " التاء " للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت من الرهبة.
واعلم أن في تفسيره هذه الإراءة قولين: الأول: أن الله أراه الملكوت بالعين، قالوا إن الله تعالى شق له السماوات حتى رأى العرش والكرسي وإلى حيث ينتهي إليه فوقية العالم الجسماني،