وكما أن شيئا لا يحيط به، فعلمه محيط بالكل، وإدراكه متناول للكل، فهذا كيفية نظم هذه الآية.
المسألة السابعة: قوله: * (وهو اللطيف الخبير) * اللطافة ضد الكثافة، والمراد منه الرقة، وذلك في حق الله ممتنع، فوجب المصير فيه إلى التأويل، وهو من وجوه:
الوجه الأول: المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة، والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها أحد إلا الله تعالى.
الوجه الثاني: أنه سبحانه لطيف في الإنعام والرأفة والرحمة. والوجه الثالث: أنه لطيف بعباده، حيث يثني عليهم عند الطاعة، ويأمرهم بالتوبة عند المعصية، ولا يقطع عنهم سواد رحمته سواء كانوا مطيعين أو كانوا عصاة.
الوجه الرابع: أنه لطيف بهم حيث لا يأمرهم فوق طاقتهم، وينعم عليهم بما هو فوق استحقاقهم. وأما الخبير: فهو من الخبر وهو العلم، والمعنى أنه لطيف بعباده مع كونه عالما بما هم عليه من ارتكاب المعاصي والإقدام على القبائح، وقال صاحب " الكشاف " * (اللطيف) * معناه: أنه يلطف عن أن تدركه الأبصار * (الخبير) * بكل لطيف، فهو يدرك الأبصار، ولا يلطف شيء عن إدراكه، وهذا وجه حسن.
قوله تعالى * (قد جآءكم بصآئر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها ومآ أنا عليكم بحفيظ) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قرر هذه البيانات الظاهرة، والدلائل القاهرة في هذه المطالب العالية الشريفة الإلهية. عاد إلى تقرير أمر الدعوى والتبليغ والرسالة فقال: * (قد جاءكم بصائر من ربكم) * والبصائر جمع البصيرة، وكما أن البصر اسم للإدراك التام الكامل الحاصل بالعين التي في الرأس، فالبصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب. قال تعالى: * (بل الإنسان على نفسه بصيرة) * (القيامة: 14) أي له من نفسه معرفة تامة، وأراد بقوله: * (قد جاءكم بصائر من ربكم) * الآيات المتقدمة، وهي في أنفسها ليست بصائر إلا أنها لقوتها وجلالتها توجب البصائر لمن عرفها، ووقف على حقائقها، فلما كانت هذه الآيات أسبابا لحصول البصائر. سميت هذه الآيات أنفسها بالبصائر، والمقصود من هذه الآية بيان ما يتعلق بالرسول وما لا يتعلق به.