والجواب أنا بينا أنه صلوات الله عليه إنما أورد هذا الدليل على الأقوام الذين كان يدعوهم من عبادة النجوم إلى التوحيد. فلا يبعد أن يقال أنه عليه السلام كان جالسا مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي وزجرهم عن عبادة الكواكب فبينما هو في تقرير ذلك الكلام إذ وقع بصره على كوكب مضيء. فلما أفل قال إبراهيم عليه السلام لو كان هذا الكوكب إلها لما انتقل من الصعود إلى الأفول ومن القوة إلى الضعف. ثم في أثناء ذلك الكلام طلع القمر وأفل. فأعاد عليهم ذلك الكلام، وكذا القول في الشمس، فهذا جملة ما يحضرنا في تقرير دليل إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.
المسألة السادسة: تفلسف الغزالي في بعض كتبه وحمل الكوكب على النفس الناطقة الحيوانية التي لكل كوكب، والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك، والشمس على العقل المجرد الذي لكل ذلك، وكان أبو علي بن سيناء يفسر الأفول بالإمكان، فزعم الغزالي أن المراد بأفولها إمكانها في نفسها، وزعم أن المراد من قوله: * (لا أحب الآفلين) * أن هذه الأشياء بأسرها ممكنة الوجود لذواتها، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر، ولا بد له من الانتهاء إلى واجب الوجود.
واعلم أن هذا الكلام لا بأس به. إلا أنه يبعد حمل لفظ الآية عليه، ومن الناس من حمل الكوكب على الحس والقمر على الخيال والوهم، والشمس على العقل، والمراد أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية، ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها والله أعلم.
المسألة السابعة: دل قوله: * (لا أحب الآفلين) * على أحكام: الحكم الأول هذه الآية تدل على أنه تعالى ليس بجسم إذ لو كان جسما لكان غائبا عنا أبدا فكان آفلا أبدا، وأيضا يمتنع أن يكون تعالى ينزل من العرش إلى السماء تارة ويصعد من السماء إلى العرش أخرى، وإلا لحصل معنى الأفول. الحكم الثاني هذه الآية تدل على أنه تعالى ليس محلا للصفات المحدثة كما تقوله الكرامية، وإلا لكان متغيرا، وحينئذ يحصل معنى الأفول، وذلك محال. الحكم الثالث تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل لا على التقليد، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة.