نصرة آبائهم والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحد أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكر ولا تدبر، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم لي، وكيف كان جدهم في أمري حين غير المغيرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصدقوا حتى عز أمري، وظهر ديني، فتأنيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون، فأطولت لهم، وصفحت عنهم، لعلهم يرجعون، فأكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتذكرون، فأعذرت في كل ذلك، أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافية وأظهر هم على العدو فلا يزدادون إلا طغيانا وبعدا مني، فحتى متى هذا؟ أبي يتمرسون أم إياي يخادعون؟ وإني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ويضل فيها رأي ذي الرأي، وحكمة الحكيم، ثم لأسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتيا، ألبسه الهيبة، وأنتزع من صدره الرأفة والرحمة والبيان، يتبعه عدد وسواد مثل سواد الليل المظلم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأن خفيق راياته طيران النسور، وأن حملة فرسانه كوبر العقبان. ثم أوحى الله إلى إرميا: إني مهلك بني إسرائيل بيافث، ويافث أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح. ثم لما سمع إرميا وحي ربه صاح وبكى وشق ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه وقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويم لقيت التوراة، ومن شر أيامي يوم ولدت فيه، فما أبقيت آخر الأنبياء إلا لما هو أشر علي! لو أراد بي خيرا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل، فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك، فلما سمع الله تضرع الخضر وبكاءه، وكيف يقول، ناداه: يا إرميا أشق ذلك عليك فيما أوحيت لك؟ قال: نعم يا رب! أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به! فقال الله: وعزتي العزيزة لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الامر من قبلك في ذلك، ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا، والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق لا آمر ريي بهلاك بني إسرائيل أبدا! ثم أتى ملك بني إسرائيل فأخبره ما أوحى الله إليه فاستبشر وفرح وقال: إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته. ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشر، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي حين لم يكونوا يتذكرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنها، فقال لهم ملكهم: يا يني إسرائيل، انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس الله، وقبل أن يبعث عليكم قوم لا رحمة لهم بكم، وإن ربكم قريب التوبة، مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه. فأبوا عليه أن ينزعوا عن شئ مما هم عليه، وإن الله قد ألقى في قلب بختنصر بن نجور زاذان بن سنحاريب بن دارياس بن نمرود بن فالخ بن عابر بن نمرود صاحب إبراهيم الذي حاجه في ربه، أن يسير إلى بيت
(٥٠)