لأنه غير محال أن في الكلام: لست من دين اليهود والنصارى في شئ فقاتلهم، فإن أمرهم إلى الله في أن يتفضل على من شاء منهم، فيتوب عليه، ويهلك من أراد إهلاكه منهم كافرا، فيقبض روحه، أو يقتله بيدك على كفره، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون عند مقدمهم عليه. وإذ كان غير مستحيل اجتماع الامر بقتالهم، وقوله: لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله ولم يكن في الآية دليل واضح على أنها منسوخة ولا ورد بأنها منسوخة عن الرسول خبر، كان غير جائز أن يقضى عليها بأنها منسوخة حتى تقوم حجة موجبة صحة القول بذلك لما قد بينا من أن المنسوخ هو ما لم يجز اجتماعه وناسخه في حال واحدة في كتابنا كتاب اللطيف عن أصول الاحكام.
وأما قوله: إنما أمرهم إلى الله فإنه يقول: أنا الذي إلي أمر هؤلاء المشركين فارقوا دينهم وكانوا شيعا، والمبتدعة من أمتك الذين ضلوا عن سبيلك، دونك ودون كل أحد إما بالعقوبة إن أقاموا على ضلالتهم وفرقتهم دينهم فأهلكهم بها، وإما بالعفو عنهم بالتوبة عليهم والتفضل مني عليهم. ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون يقول: ثم أخبرهم في الآخرة عند ورودهم علي يوم القيامة بما كانوا يفعلون فأجازي كلا منهم بما كانوا في الدنيا يفعلون، المحسن منهم بالاحسان والمسئ بالإساءة. ثم أخبر جل ثناؤه ما مبلغ جزائه من جازى منهم بالاحسان أو بالإساءة، فقال: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون. القول في تأويل قوله تعالى: * ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) *.
يقول تعالى ذكره: من وافى ربه يوم القيامة في موقف الحساب من هؤلاء الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا بالتوبة والايمان والاقلاع عما هو عليه مقيم من ضلالته، وذلك هو الحسنة التي ذكرها الله، فقال: من جاء بها فله عشر أمثالها. ويعني بقوله: فله عشر أمثالها فله عشر حسنات أمثال حسنته التي جاء بها. ومن جاء بالسيئة يقول: ومن وافى يوم القيامة منهم بفراق الدين الحق والكفر بالله، فلا يجزى إلا ما ساءه من الجزاء، كما وافى الله به من عمله السيئ. وهم لا يظلمون يقول: ولا يظلم الله الفريقين: لا فريق الاحسان، ولا فريق الإساءة، بأن يجازي المحسن بالإساءة والمسئ بالاحسان