والصواب من القول في ذلك عندي: أنهما قراءتان مستفيضتان في قراء الأمصار وعوام المسلمين صحيح معنياهما، فبأي القراءتين قرأ القارئ فهو مصيب الحق في قراءته. وذلك أن الله تعالى ذكره قد أمر باتباع سبيله، كما أمر عباده بالأشياء. وإن أدخل ذلك مدخل فيما أمر الله نبيه (ص) أن يقول للمشركين: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم وما أمركم به، ففتح على ذلك أن فمصيب. وإن كسرها إذ كانت التلاوة قولا وإن كان بغير لفظ القول لبعدها من قوله: أتل، وهو يريد إعمال ذلك فيه فمصيب. وإن كسرها بمعنى ابتداء وانقطاع عن الأول والتلاوة، وأن ما أمر النبي (ص) بتلاوته على من أمر بتلاوة ذلك عليهم قد انتهى دون ذلك، فمصيب. وقد قرأ ذلك عبد الله بن أبي إسحاق البصري:
وأن بفتح الألف من أن، وتخفيف النون منها، بمعنى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا، وأن هذا صراطي فخففها إذ كانت أن في قوله: أن لا تشركوا به شيئا مخففة، وكانت أن في قوله: وأن هذا صراطي معطوفة عليها، فجعلها نظيرة ما عطفت عليه. وذلك وإن كان مذهبا، فلا أحب القراءة به لشذوذها عن قراءة قراء الأمصار وخلاف ما هم عليه في أمصارهم. القول في تأويل قوله تعالى:
* (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شئ وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون) *.
يعني جل ثناؤه بقوله: ثم آتينا موسى الكتاب ثم قل بعد ذلك يا محمد: آتي ربك موسى الكتاب. فترك ذكر قل، إذ كان قد تقدم في أول القصة ما يدل على أنه مراد فيها، وذلك قوله: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم فقص ما حرم عليهم وأحل، ثم قال: ثم قل: آتينا موسى، فحذف قل لدلالة قوله: قل عليه، وأنه مراد في الكلام.
وإنما قلنا ذلك مراد في الكلام، لان محمدا (ص) لا شك أنه بعث بعد موسى بدهر طويل وأنه إنما أمر بتلاوة هذه الآيات على من أمر بتلاوتها عليه بعد مبعثه، ومعلوم أن موسى أوتي الكتاب من قبل أمر الله محمدا بتلاوة هذه الآيات على من أمر بتلاوتها عليه، وثم في كلام العرب حرف يدل على أنه ما بعده من الكلام والخبر بعد الذي قبلها.