في الدنيا مهلك بقوله:
(ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة) هذا أيضا تشبيه تمثيلي وفيه تزهيد في تناول زهرات الدنيا ومطعوماتها الشهية وكثرة الأكل منها فإن ذلك موجب لقوة النفس الإمارة وطغيانها وسبب لهلاكها ثم أمر بعتم الركون إلى الدنيا والاستقرار فيها للجمع والإدخار بقوله:
(ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر) هذا أيضا تمثيل ووجه ظاهر إذ كل عاقل يعلم أن الدنيا محل العبور لا محل النزول كالقنطرة فأنظر هل ترى فيها من السابقين أحدا، ثم أمر برفض كل ما لا يحتاج إليه بقوله:
(أخربها ولا تعمرها فإنك لم تؤمر بعمارتها) لعل المراد بإخرابها ترك ما لا يحتاج إليه من المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والاقتصار على القدر الضروري في كل منها. إذ لا بد للسالك من زاد للدنيا وزاد للآخرة فزاد الدنيا القدر الضروري مما ذكر وكلما كان أقل فهو أحسن وأفضل وزاد الآخرة العلم والعمل وتهذيب الظاهر والباطن وهو كلما كان أتم وأكثر كان أحسن وأجدر. وفي قوله:
(وأعلم أنك ستسأل غدا) ترغيب في صرف قوة الشباب والعمر في طلب الدين والعمل به واكتساب المال من طرق الحلال وإنفاقه في الوجوه المشروعة وإرشاد إلى التأهب والاستعداد للجواب ومراقبة النفس ومحاسبتها في كل آن لئلا يقع في هاوية النقصان والخذلان.
(ولا تأس على ما فاتك من الدنيا - إلى آخره) وفيه ترغيب في تطهير القلب عن حب الدنيا أي لا تحزن على ما فاتك من قليل الدنيا وكثيرها.
(فإن قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه) والعاقل لا يتأسف بقوات قليل لا بقاء له (وكثيرها لا يؤمن بلاؤه) والعاقل لا يتأسف بفوات ما يوقعه في الضرر والبلية (فخذ حذرك) الحذر «تهيئه كار» ولعل المراد به تجهيز أمر الآخرة بتطهير الظاهر والباطن (وجد في أمرك) لعل المراد به تحلية الظاهر والباطن بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة.
(وإكشف الغطاء عن وجهك) أي عن وجه قلبك. وغطاؤه ما يحجبه عن مشاهدة المعبود وملاحظة المقصود ويمنعه من الوصول إليه والتقرب منه من مفاسد العقائد ومقابح الأعمال والأخلاق، وكشفه رفعه الموجب لمشاهدة جلاله وكماله والاتصال به اتصالا روحانيا.
(وتعرض لمعروف ربك) وهو ما أراد منك، أو أجره في الآخرة، أو ما يفضيه على أهل العرفان (وجدد التوبة في قلبك) إشارة إلى أن التوبة أمر قلبي وهي الندامة عما مضى والعزم على عدم الإتيان بمثله، وإلى رجحان تجديد التوبة بعد التوبة لأن السالك لا بد أن يكون في ندامة بعد