وهو الزهد في الدنيا ورغبه فيه بقوله (إلا ما ينفع خيره ويضر شره إلا من رحم الله) الظاهر أن «إلا» حرف تنبيه وما نافية والضمير البارز راجع إلى شيئا والجملة بيان لما قبلها يعنى أن شيئا من الدنيا ليس شيئا يعتد به ويركن إليه العاقل لأنه أما خير أو شر وخيره لا ينفع لأنه في معرض الفناء والزوال وشره يضر إلا من رحم الله وهو الذي عصمه من الشر وفيه زجر عن التعرض لشيء منها وإنما قال من الدنيا ولم يقل في الدنيا لأن في الدنيا شيء يعتد به إذا كان متعلقا بالآخرة فخيره يطلب وشره يترك ولما كان سبب الغفلة في الأكثر هو الاشتغال بالأهل والمال وصرف العمر في رعايتهما وحفظهما نهى عن ذلك بقوله (يا مبتغى العلم لا يشغلك أهل ولا مال عن نفسك) أي عن تحصيل ما ينفعك في يوم لا ينفع مال ولا بنون كما قال جل شأنه (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون».
ثم رغب في تركها وحكم بأنه سهل لقة زمانها بقوله (أنت يوم تفارقهم كضيف بت فيهم ثم غدوت عنهم إلى غيرهم) التشبيه بالضيف في قلة الإقامة وقرب الرحيل وفيه مع ما يليه تنبيه على سرعة الإنتقال والنزول في الآخرة ومشاهدة أهوالها وكراماتها وتحريص على تحمل المشاق فيها وتحصيل زاد الآخرة.
(يا مبتغى العلم قدم لمقامك بين يدي الله عز وجل) أي قدم العمل والعمل متوقف على العلم ولذلك خاطب مبتغيه بذلك، وفي قوله «كما تدين تدان» تنبيه على وجوب حسن المعاملة مع الرب إذا كان حسن جزائه بقدر حسن المعاملة معه وقبحه بقدر قبحها. ويؤيده ما روى «وكما تزرع تحصد» لفظ الزرع مستعار لما يفعله الإنسان من خير أو شر، ولفظ الحصد لما يثمر ذلك الفعل من ثواب أو عقاب، ووجه الإستعارتين ظاهر.
* الأصل 19 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مالي وللدنيا وما أنا والدنيا إنما مثلي ومثلها كمثل الراكب رفعت له شجرة في يوم صائف فقال تحتها ثم راح وتركها.
* الشرح قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لي وللدنيا؟ وما أنا والدنيا؟) ومن طريق العامة روى عن إن مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نام على حصير فقام وقد أثر في جسده فقالوا لو أمرتنا أن نبسط لك ونعمل فقال «مالي وللدنيا؟ وما أنا والدنيا إلا كراكب إستظل تحت شجرة ثم راح وتركها» وهذا من التشبيه التمثيلي ووجه التشبيه سرعة الرحيل وقلة المكث وعدم الرضا به فقد أشار (عليه السلام) إلى أنه