قدومهم الآخرة. والمراد بالمؤمنين المؤمنون الكاملون وهم الكرماء والمتورعون في مكاسبهم والملازمون فيها للأعمال الجميلة الصالحة والأخلاق الفضيلة الكاملة وأداء الحقوق النفسية والبدنية البالغون بذلك إلى أعلى مراتب المحبة وأقصى معارج اليقين، ثم بالغ في الحث على الزهد في الدنيا بقوله:
(يا جابر الآخرة دار قرار والدنيا دار فناء وزوال ولكن أهل الدنيا أهل غفلة) للتنبيه على أنه لا ينبغي ايثار الفاني على الباقي ولكن أهل الدنيا لما كانوا جاهلين بقبائح الدنيا غافلين عن أمر الآخرة واختاروا الزائل ترجيحا للشاهد على الغائب وهو محل التعجب ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) « عجبت لعامر دار الفناء وتارك دار البقاء» ثم أشار إلى أن كمال الإيمان والزهد في الدنيا يتحققان بالفقه والفكرة والعبرة بقوله:
(وكأن المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة لم يصمهم عن ذكر الله جل اسمه ما سمعوا بآذانهم) من أخبار بسطة أيدي السابقين والقاصين وكثرة أموالهم وشدة تمكنهم من الدنيا (ولم يعمهم عن ذكر الله ما رأوا) في أهل الدنيا - (ومن الزينة بأعينهم ففازوا) لترك الدنيا (بثواب الآخرة كما فازوا بذلك العلم) إذ بتفقههم يعرفون الخير والشر ويميزون بين الحق والباطل وبين الباقي والزائل وبفكرتهم يتفكرون في أحوال ما بعد الموت إلى أن يدخل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وفي أهوال ما يرد عليه الإنسان بعده من المقامات وصعود بالتخلص منها وبالعبرة يعتبرون بأنفسهم في كيفية وصول الرزق إليهم حين كونهم أجنة في بطون أمهاتهم من غير إختيار ولا عمل لهم، وبأحوال الماضين وما كانوا فيه من نعيم الدنيا ولذاتها والمباهات بكثرة الأموال والأعوان، ثم المفارقة لذلك كله بالموت أو الاخذ، وبقاء الحسرة والندامة والأعمال وعلائق الدنيا حجبا حائلة بينهم وبين الرحمة وحضرة جلال الله وذلك يبعثهم على الزهد في الدنيا والإقبال ظاهرا وباطنا إلى الله تعالى والسعي للآخرة رحم الله من تفقه وتفكر وإعتبر فأصبر، ثم أشار إلى جملة من حالات الزاهدين وصفات المتقين بقوله: يا جابر ان أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة) أي ثقلا لأنهم لا يتحملون من الدنيا إلا القدر الضروري في التعيش والبقاء (وأكثرهم لك معونة) لأنهم مستعدون لإعانة المحتاجين في أمور الدنيا والدين سألوا أم لا كما أشار إليه بقوله (تذكر) أي حاجتك، (فيعينونك) فيها (وإن نسبت ذكروك) وأرشدوك إليها وإلى طريق قضائها، ثم يعينونك مع الحاجة إلى الإعانة (قوالون بأمر الله) لأن شأنهم إرشادهم وهدايتهم للخلق إلى ما فيه صلاحهم وزجرهم عما فيه فسادهم (قوامون على أمر الله) يحفظونه من الزيادة والنقصان ويمنعون عنه تصرف أهل الجهل والطغيان فهو