«فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه» قوله «وكان إدامه الجوع» وجهه قيام بدنه بالجوع كقيامة بالإدام. وقوله «ظلاله - إلى آخره» وجهه إستتاره عن البرد بها كاستتاره بالضلال (ألا ومن إشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات) أي نسيها ومنع نفسه منها (ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات) جميع الحرمة كالغرفات جمع الغرفة، وذلك لأن الإشتياق إلى الشيء يستلزم التوسل بسببه والإشفاق من الشيء يستلزم التحرز من سببه (ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب) لأن المصائب الدنيوية كلها راجعة إلى فوات الدنيا ومن زهد فيها سهل فواتها عنده ولا يحزن به.
(ألا أن لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في البدن مخلدين وكمن رأى أهل النار في النار معذبين) أشار به إلى أن العارف وأن كان في الدنيا بجسده فهو في مشاهدة بعين بصيرته لأحوال الجنة وسعادتها وأحوال النار وشقاوتها كالذين شاهدوا الجنة بعين حسهم وتنعموا فيها وكالذين شاهدوا النار وعذبوا فيها كما مر في حديث حارثة وهي مرتبة عين اليقين وبحسب هذه المرتبة كانت شدة شوقهم إلى الجنة وشدة خوفهم من النار.
وأشار إلى بعض أحوال هؤلاء بقوله (شرورهم مأمونة) لأن علمهم بقبح عاقبة الشر يمنعهم عن القصد له والتوجه إليه ولأن مبدأ الشر محبة الدنيا وهم بمعزل عنها.
(وقلوبهم محزونة) من احتمال تقصيرهم فيما مضى أو فيها يأتي وعدم علمهم بعاقبة أمورهم وبما يفعل بهم في الدنيا والآخرة، وخوفهم من ألم الفراق والعقبات المستقبلة ولا يسكن حزنهم ولا تطمئن قلوبهم حتى يخرجوا من الدنيا.
(أنسهم عفيفة) لإعتدال قوتهم الشهوية ووقوعها على الوسط بين رذيلتي الخمود والفجور فلا يعجزون عن الحق ولا يميلون إلى الفجور (حوائجهم خفيفة) لإقتصارهم في الدنيا على القدر الضروري منها (صبروا أياما قليلة فصاروا بعقبى راحة طويلة) أريد بأيام قليلة مدة عمرهم وهم صبروا فيها على المكاره والشدائد والشدائد وترك الدنيا واحتمال أذي الخلق والقيام بالتكاليف، وفي ذكره قلة مدة الصبر وإستعقابه للراحة الطويلة ترغيب في الصبر تحمل مشقة كثيرة في مدة قليلة لمنفعة جزيلة راحة طويلة أبدية سهل وتلك الراحة هي السعادة في الجنة كما قال جال وعز (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا».
(أما الليل فصافون أقدامهم تجرى دموعهم على خدودهم وهم يجأرون إلى ربهم يسعون في