وسار والمراد بادبار الدنيا تقضيها وانصرامها ففيه إشارة إلى تقضى الأحول الدنيوية الحاضرة بالنسبة إلى كل أحد من صحة وشباب وجاه ومال وكل ما هو سبب لصلاح حاله في الدنيا لدنوها من الإنسان ولما كانت هذه الامور دائما في التغير والتقضي المقتضى لمفارقة الإنسان لها بعدها عنه حسن اطلاق اسم الادبار على تقضيها وبعدها، وتشبيهها بالحيوان في الادبار مكنية واثبات الارتحال لها تخييلية، ونسبة الادبار إليها ترشيح، وأشار إلى أن الأخرة على عكس ذلك بقوله:
(وأن الآخرة قد ارتحلت مقبلة) الآخرة عبارة عن دار جامعة لأحوال يعود إليها الناس بعد الموت من طاعة ومعصية وسعادة وشقاوة وغيرها ولما كان تقضى العمر شيئا فشيئا باعثا للوصول إلى تلك الدار والورود على ما فيها من خير أو شر كان كل أحد متوجها إليها وإعتبر توجهها إليه أيضا فشبهها بحيوان حامل لأثاث تلك الأحوال مقبلا إليه فعن قريب يتلا قياق (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال شرا يره» وإلى مضمون الفقرتين أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «كل ماض فكان لم وكل آت فكان قد» أي كان لم يكن وكان قد أتى حذف الفعلان لظهورهما (ولكل واحدة منهما بنون) استعار لفظ البنين للخلق بالنسبة إلى الدنيا والآخرة ولفظ الأدب لهما ووجه الاستعارة أن الابن لما كان من شأنه الميل إلى الأب بحسب الطبع أو بحسب توقع النفع ومن شأن أبيه إيصال المتوقع وكان الخلق منهم من يميل إلى الدنيا لتوقع النفع وهي يوصله إليه ومنهم من يميل إلى الآخرة لذلك شبه الخلق بالابن والدنيا والآخرة بالأب واستعار لفظ الابن لهم ولفظ الأب لهما لتلك المشابهة المذكورة ولما كان غرضه حث الخلق على الآخرة والميل إليها والإعراض عن الدنيا قال (فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا) لأن منافع الدنيا خيالية باطلة وسموم قاتلة ومنافع الآخرة حقائق دائمة وفوائد باقية أبدا فينبغي أن تكونوا والهين إليها وراغبين فيها وعاملين لها وأشار إلى أن المقصود ليس مجرد رفض الدنيا وترك العمل لها بل هو مع إزالة حبها عن القلب بقوله:
(وكونوا من الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة) لأن الزهد هو رفض الدنيا ظاهرا وباطنا ولا يتحقق الرغبة في الآخرة إلا به فأشار إلى بعض آثار الزهد وعلاماته بقوله: (ألا أن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا وقرضوا من الدنيا تقريضا) البساط فعال بمعنى مفعول كالكتاب بمعنى المكتوب والفراش بمعنى المفروش والطيب اللذيذ أو العطر والتقريض بمعنى التقطيع وإزالة الاتصال من قرضت الثواب إذا قطعته بالمقراض، أو بمعنى التجاوز من قرضت الوادي إذا جزته أو بمعنى العدول من قرضت المكان إذا عدلت عنه، وبعض أطوار الزاهد ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف عيسى على نبينا «وعليه الصلاة والسلام بقوله: