غير أطوار أهل الدنيا وأوضاعهم وأقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم فيظنون أنه خولط واختل عقله حيث لم يجدوا عقله كعقلهم وفعله كفعلهم ولذلك نسب كفرة قريش الجنون إلى الجنون إلى النبي المبارك (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقرب منه قوله (أن القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حيت يسمو ) القلب من عالم القدس النوراني (1) واستقراره في عالم البدن الإنساني إنما هو بقدر تعلقه به وغفوله عن ذلك العالم الأصلي فإذا صفا عن الخبائث النفسانية والرذائل الشيطانية والقيودات الدنيوية والتعلقات البشرية والطبيعية واتصف بالكمالات الروحانية والصفات الشريفة الربانية تذكر مكانه الأصلي وقطع يده عن الأسباب وتعلق برب الأرباب فينكشف عنه الحجاب فضاقت به الأرض فيضطرب ويستوحش منها ولا يستقر حتى يسمو ويرتفع من هذا العالم إلى العالم الأعلى ويتشرف بقرب المولى، وإن شئت زيادة توضيح فنقول لما كانت الأرض أعظم أجزاء الإنسان وكانت قواه الظاهرة والباطنة مائلة إليها بالطبع لكمال النسبة بينهما كانت الدواعي إلى زهراتها حاضرة والبواعث إلى لذاتها ظاهرة فربما يشتغل بها ويكتسب الأخلاق والأعمال الفاسدة لتحصيل المقاصد حتى تصير النفس تابعة لها راضية بأثرها مشعوفة بعملها منكدرة بالشهوات منغمسة في اللذات فتحب الاستقرار في الأرض وتركن إليها، وأما إذا منعت تلك القوى عن مقتضاها وصرفتها عن هواها وروضتها بمقامع الشريعة وأدبتها بآداب الطريقة حتى غلبت عليها وصفت عن كدوراتها وظهرت عن خبائث لذاته وتخلصت من قيوداتها وتحلت بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة والآداب الرفيعة والأطوار المرضية ضاقت بها الأرض حتى تسمو إلى عالم النور والروحانية فتشاهد عالم الأعلى بالعيان وتنظر إلى الحق بعين العرفان ويزداد لها نور الإيمان والإيقان فتعاف جملة الدنيا والاستقرار في الأرض فبدنها في هذه الدنيا وهي في عالم الأعلى. وفيه ترغيب للعقلاء في ترك الدنيا وتحريك لهم إلى ترك الطباع ورسوم العادات وزجر لنفوسهم عن الفضول والمنهيات لتصفو بذلك عن الرذائل الناسوتية وتتصل بالحق وتشاهد الأسرار اللاهوتية وهو غاية مقصد الإنسان ونهاية مطلب أهل العرفان.
* الأصل 11 - علي [عن أبيه]، عن علي بن محمد القاساني، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن عبد الرزاق بن همام، عن معمر بن راشد، عن الزهري، عن محمد بن مسلم بن شهاب قال: