فصل: في الحكم بين المعاهدين والمهادنين:
لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما نزل المدينة وادع يهودا كافة على غير جزية - والموادعة والمهادنة شئ واحد - منهم بنو قريظة والنضير والمصطلق لأن الإسلام كان ضعيفا بعد، وفيهم نزل قوله تعالى: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، فإذا تحاكم أهل الهدنة إلينا لم يجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل هو بالخيار في ذلك، فأما أهل الذمة فالحكم فيهم أيضا مثل ذلك، وقد روى أصحابنا أنهم إذا تحاكموا إلى حاكم المسلمين حملهم على حكم الإسلام.
وأهل الذمة إذا فعلوا ما لا يجوز في شرع الإسلام نظر فيه، فإن كان غير جائز في شرعهم أيضا - كما لو زنوا أو لاطوا أو سرقوا أو قتلوا أو قطعوا - كان الحكم في ذلك كالحكم بين المسلمين في إقامة الحدود لأنهم عقدوا الذمة بشرط أن تجري عليهم أحكام المسلمين، وإن كان ذلك مما يجوز في شرعهم - مثل شرب الخمر ولحم الخنزير ونكاح ذوات المحارم - فلا يجوز أن يتعرض لهم ما لم يظهروه ويكشفوه لأنا نقرهم عليه ونترك التعرض لهم فيه لأنهم عقدوا الذمة وبذلوا الجزية على هذا، فإن أظهروا ذلك وأعلنوه منعهم الإمام وأدبهم على إظهاره، وقد روى أصحابنا أنه يقيم عليهم الحدود بذلك، وهو الصحيح.
إذا جاءنا نصراني قد باع من مسلم خمرا أو اشترى من مسلم خمرا أبطلناه بكل حال - تقابضا أو لم يتقابضا - ورددنا الثمن إلى المشتري، فإن كان مسلما استرجع الثمن وأرقنا الخمر لأنا لا نقضي على المسلم برد الخمر، وجوزنا إراقتها لأن الذمي عصى بإخراجها إلى المسلم فأريقت عليه، وإن كان المشتري المشرك رددنا إليه الثمن ولا نأمر الذمي برد الخمر بل نريقها لأنها ليست كمال الذمي.
يكره للمسلم أن يقارض النصراني أو يشاركه لأنه ربما يشتري ما ليس بمباح في شرعنا، فإن فعل صح القراض لأن الظاهر أنه لا يفعل إلا المباح.
وينبغي إذا دفع إليه المال أن يشترط أن لا يتصرف إلا فيما هو مباح في شرعنا