وأما إذا أنكر الباقون فالهدنة ثابتة في حقهم لأنه لا يضيع لهم فيما فعله، فإذا ثبت هذا فكل موضع حكمنا أن الهدنة زالت في حق الكل فإنهم يصيرون بمنزلة أهل الحرب الذين لم يعقد لهم هدنة، وللإمام أن يسير إليهم ويقاتلهم، وكل موضع حكمنا بنقضها في حق بعض دون بعض نظر، فإن اعتزلوا وفارقوا بلادهم سار الإمام إلى الناقضين وقاتلهم على ما ذكرناه، وإن لم يعتزلوهم ولم يميزهم الإمام لم يكن للإمام أن يسير إليهم ليلا ولا يبيتهم لكن يميزهم ثم يقاتل الباقين، فإن عرفهم فذاك، وإن أشكل عليه فالقول قولهم لأنه لا يتوصل إليه إلا من جهتهم.
إذا خاف الإمام من المهادنين خيانة جاز له أن ينقض العهد لقوله تعالى:
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء، ولا تنقض الهدنة بنفس الخوف بل للإمام نقضها، فإذا نقضها ردهم إلى مأمنهم لأنهم دخلوا إليه من مأمنهم فكان عليه ردهم إليه.
وإذا زال عقد الهدنة لخوف الإمام نظر فيما زال به، فإن لم يتضمن وجوب حق عليه - مثل أن آوى لهم عينا أو عاون - رده إلى مأمنه ولا شئ عليه، وإن كان ذلك يوجب حقا نظر، فإن كان حقا لآدمي - كقتل نفس وإتلاف مال - استوفى ذلك منه، وإن كان حقا لله محضا - كحد الزنى وشرب الخمر - لم يقم عليه بلا خلاف عند الفقهاء، وعندي أنه يجب أن يقيم عليه الحدود لعموم الآي، وإن كان حقا مشتركا مثل السرقة قطعه.
قد بينا فيما تقدم أن على الإمام أن يغزو كل سنة أقل ما يجب عليه، وإن كان أكثر من ذلك كان أفضل، ولا يجوز ترك ذلك إلا لضرورة: منها أن يقل عدد المسلمين ويكثر المشركون فإنه يجوز تأخيره، ويجوز أيضا إذا توقع مجئ مدد فيقوى بهم، أو يكون الماء والعلف متعذرا في طريقه فيجوز تأخيره حتى يتسع، أو يرجو أن يسلم منهم قوم إذا بدأهم بالقتال لم يسلموا، ولهذا أخر النبي صلى الله عليه وآله قتال قريش لهدنة، وأخر قتال أسد وطي ونمير بلا هدنة فثبت