ألفه دهرا وقضى في لذته وطرا وأنس به زمانا حتى إذا التقم الحلمة سكن بكاؤه وقر قراره وصار يمتص اللبن بإقبال والتذاذ وسكون واستعجال. كأن له في هذه الأمور سابق تدريس وعلم وامتحان وتجربة ومحبة وألفة.
ولقد شاهدت شاة حين ولادتها فرأيت جنينها زار الأرض مخرجا رأسه من كيسه طالبا للفرار منه كأنه يعرف أن هذا الكيس قد صار في دورة الولادة سجن الضيق والضرر والفقر بعد أن كان بيت الراحة والحماية والكفاية.
فصار ذلك القادم الجديد الغريب يرغو بلجاجة ويتحرك باستعجال متوجها إلى ناحية رأس أمه الذي لم يره قط. يزحف مرتعشا ويتحرك مستعجلا متكلفا حتى إذا وصل إلى رأس أمه وتمكنت من لحس ما عليه من الرطوبات سكنت حركته واطمئن في مربضه فكأنه يقدم أعضائه إلى أمه لكي تلحس رطوباتها. أيها القادم الجديد هذه الرطوبات كانت ثوبك المألوف في دور الجنينية فلماذا تساعد على نزعه. متى عرفت أنه يكون قذارة مضرة في دور الولادة؟ وحتى إذا سكن عن أمه ألم الولادة وقامت عن مربضها تحامل للقيام على تكلف كأنه يطلب أليفا أنس به زمانا ففقده أو طريقا اعتاد لسلوك فيه فضل عنه أو رزقا سعى في تحصيله مدة فضاع منه وصار يضع فمه على مواضع من بطن أمه يحوله من موضع إلى موضع حتى إذا التقم الثدي أقبل عليه بنشاط وابتهاج كأنه وجد ضالته وحظي بأنيسه القديم. وإنك إذا تتبعت مواليد الحيوانات تجدها كلها على هذا المبدأ في الشعور الابتدائي كأنها متخرجة من مدرسة قد درست فيها هذه التعالم على معلم عالم رؤوف بها.
فهل يكون هذا كله من دون عالم فعال مدبر يلهمها رشدها ويعلمها تدبير أمرها.
وفي هذا المألوف المعروف كفاية. فلا حاجة إلى ذكر عجائب المنقولات من أحوال الحيوان (يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم *