مائة يوم مثل يوم واحد ما يفترون ولا يكيع بعضهم من بعض، فلما كان في آخر الأيام اقتتلوا من صلاة المغرب إلى أن أصبحوا، ثم رجع عن بعضهم بعض وقد قتل من الفريقين سبعة عشر ألف إنسان، ثم وضعوا السلاح.
وصعد ابن الأشعث إلى منبر له في عسكره - قد كان حمله قبل ذلك معه - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إن الحرب سجال تهلك فيها أنفس الرجال، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ظفر يوما قط حتى ينال منه ومن أصحابه، فإن كان هذا الامر في قريش فقد فقأتم (1) بيضة قريش، وإن يكن في غيركم من العرب فأنا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس (2) بن معدي كرب، أيها الناس! إنكم لتعيرون آل مروان بأمهم الزرقاء، ولا والله ما كان لهم نسب قط أشرف من الزرقاء!
وإنكم تعلمون أن مروان هو الطريد ابن طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وإنه على منبره يقول ما يقول إذ نادى منادي الحجاج بالقتال، فزحف القوم بعضهم إلى بعض، فجعلوا يقتتلون ويتناجزون وابن الأشعث واقف على المنبر، وإن السهام لتأتيه من بين يديه حتى تجوزه فما يستتر منها بشيء ولا يتقيها، لكنه ينظر إلى أصحابه كيف يقتلون. فلم يزل كذلك حتى وقعت الهزيمة على أصحابه من خيل خرجت لهم في الكمين، فمروا منهزمين لا يقف أحد على أحد حتى دخلوا الكوفة، فلما نظر ابن الأشعث إلى ذلك نزل عن المنبر فاستوى على فرسه، ثم وقف على حامية الناس في قريب من ألف رجل، فجعل مرة يحمل عليهم فيكشفهم، ومرة يدنو من الكوفة، فنظر إلى أبياتها فكبر ودخلها فجعل يحمل نساءه وحريمه وأولاده وأمواله حتى صار إلى السوس فنزلها ومعه زهاء عن عشرة آلاف من أصحابه، وسائرهم قد تفرقوا في البلاد.
قال: والحجاج في موضعه ذلك بدير الجماجم لا يبرح حتى علم أن ابن الأشعث قد خرج، فأقبل حتى دخل الكوفة وتلاحقت به الناس من دير الجماجم، ثم دخل الحجاج إلى قصر الامارة ودعا الناس إلى البيعة، فبايعوه من كل ناحية.
قال: وتقدمت إليه قبائل النخع لتبايعه وتطابقه وتشايعه - والله أعلم وأحكم -.