في اليوم الثاني إلى مثل ذلك، قد شايعه في طريقه الوزراء والقواد، وأمراء الأجناد، والعلماء والفقهاء، والجنود والعساكر قد صاروا منه بمعزل يحاذونه في طريقه. إذا نزل في الرواق صار الخصيان حوله، بحيث يسمعون كلامه، ولا يرون شخصه، فلا يشتهي شيئا من معرفة أخبار الأمصار والبلدان، إلا وخط فيه كتابا، يأمر فيه بإيصاله لحيث شاء من الأماكن، مسيرة الأيام والليالي، فيأتيه الجواب من يومه على النجائب من مسيرة ثمانية أيام، ويأتيه الجواب من يومه من مسيرة شهر ونحوه على أجنحة الحمام، يعلق الكتاب في جناحه فيرتفع في الجو ارتفاعا يغيب شخصه عمن في الأرض، وينقض على وطنه، وموضع فراخه، فإذا نزل لا يستقر نزوله، حتى يؤخذ الكتاب من جناحه، فيجاوب بما أحب، ثم يسرح غيره، فيرتفع في الجو حتى يوازي وطنه وموضعه من بعد تلك الأماكن التي عليها طريق أمير المؤمنين، فيؤخذ الجواب منه، وقد صار الموكلون بذلك لا يهتمون بغير ما قلدوا، ولا يتشاغلون بغير ما حملوا، فلم يزل كذلك ماشيا، حتى وصل إلى مكة في ثلاثة أشهر، فقضى حجه، وشهد مناسكه ومشاعره، ثم انصرف قافلا إلى بغداد، وذلك في آخر شهر ذي الحجة من سنة ثمانين ومئة. فلما هم بالانصراف، وذكر القفول إلى العراق، رفع إليه أهل مكة كتابا يسألونه فيه أن يولي عليهم قاضيا عدلا، فأدخلهم على نفسه، فقال: إن شئتم فاختاروا منكم رجلا صالحا أوليه قضاءكم، وإن أحببتم بعثت إليكم من العراق رجلا لا آلوكم فيه إلا خيرا، فخرجوا فاختاروا رجلا، فاختلفوا فيه، فاختارت طائفة منهم رجلا، واختارت أخرى رجلا آخر، فلما اختلفوا ارتفعوا إلى الرشيد يذكرون اختلافهم. فقال لهم هارون: أدخلوا علي هذين الرجلين اللذين اختلفتم فيهما، فإذا برجلين، أحدهما شيخ من قريش، والآخر غلام حدث من الموالي. فلما نظر إليهما الرشيد قال للشيخ: ادن مني، فدنا منه، فقال له الرشيد: أيها القاضي، إن بيني وبين وزيري هذا خصومة وتنازعا، فاقض بيننا بالحق. فقال الشيخ: قصا علي قصتكما، فقصا عليه، فقال الشيخ: تقيم البينة يا أمير المؤمنين على ما ذكرته، أو يحلف وزيرك هذا. فقال له هارون: إن أخي لا يدافعني ما أقول، ولا ينكر إلا قليلا مما أدعى، فلم يزالا يرددان القول بينهما ويتنازعان، حتى قضى القاضي لأمير المؤمنين على الوزير. فقال له: قم، فقام عنه. ثم دعا بالغلام الحدث، الذي دعته الطائفة الأخرى، فدخل عليه. فقال له: ادن مني، فدنا منه. فقال له هارون: إن بيني وبين وزيري تنازعا وخصومة، فاسمع منا قولنا، ثم اقض بيننا بالحق. قال لهما: إن مقعدكما مختلف، ومجلسكما متناء، وأخشى إذا اختلف مجلسكما أن يختلف قولكما، فإذا تفاضل مجلس الخصوم اختلف بينهما القول، وكان صاحب المجلس الأرفع ألحن بحجته، وأدحض لحجة صاحبه،
(١٦٢)