فقال له أمير المؤمنين: أرضيت يا أعرابي؟ فقال: ما بقي لي شئ يا أمير المؤمنين إلا الحملان والكسوة، وطرائف الكوفة، وتحف البصرة، وجوائز الضيافة وحقها. فقال الرشيد:
وما يصلح لك من الحملان يا أعرابي؟ فقال: أقصد ما يكون دابة للجمال، وأخرى للحملان وثلاثة للاسترحال، ولابني مثل ذلك، ومن الكسوة ما لا بد منه من ثياب المهنة والاستشعار، وما لا غنى عنه من الوطاء والدثار، مع رائع الثياب التي تكون للجمال والجماعات والأعياد، ولابني وبني ابني مثل ذلك. فدعا الرشيد بجعفر بن يحيى وقال: أرحني من هذا، وأمر له بما سأل من الحملان، وما أراد به من ثياب المهنة والجمال، وأغدق عليه من التحف والطرائف ما ترضيه به، وأخرجه عني، فخرج جعفر فأمر له بما سأل وأعطاه ما أراد. ثم انصرف الأعرابي راجعا إلى الحجاز بأموال عظيمة، لا يوصف أكثرها، ولا يعرف أقلها، وكل هذا يقل عندما عرف من جود الرشيد وسخائه، وجزيل عطائه، قتل جعفر بن يحيى بن يرمك قال عمرو بن بحر الجاحظ: حدثني سهل بن هارون، قال: والله إن كان سجاعو الخطب، ومحبرو القريض لعيالا على يحيى بن خالد بن برمك وجعفر بن يحيى، ولو كان كلام يتصور درا، ويحيله المنطق السري، جوهرا، لكان كلامهما، والمنتقى من لفظهما، ولقد كانا مع هذا عند كلام الرشيد، في بديهته وتوقيعاته في أسافل كتبه، عيين، وجاهلين أميين، ولقد عبرت معهم وأدركت طبقة المتكلمين في أيامهم، وهم يرون أن البلاغة لم تستكمل إلا فيهم، ولم تكن مقصورة إلا عليهم، ولا انقادت إلا لهم، وأنهم محض (1) الأنام، ولباب الكرام، وملح الأيام، عتق منظر، وجودة مخبر، وجزالة منطق، وسهولة لفظ، ونزاهة أنفس، واكتمال خصال، حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهم، والمأثور من خصالهم كثير أيام من سواهم، من لدن آدم أبيهم إلى نفخ الصور، وانبعاث أهل القبور، حاشا أنبياء الله المكرمين، وأهل وحيه المراسلين، لما باهت إلا بهم، ولا عولت في الفخر إلا عليهم، ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم، وكريم أعراقهم، وسعة آفاقهم، ورفق ميثاقهم، ومعسول مذاقهم، وسني إشرافهم، ونقاوة أعراضهم، وطيب أغراضهم، واكتمال خلال الخير فيهم إلى ملء الأرض مثلهم، في جنب محاسن المأمون كالنفثة في البحر، وكالخردلة في المهمة القفر.
قال سهل: إني لمحصل أرزاق العامة بين يدي يحيى بن خالد في داخل سرادقه، وهو مع الرشيد بالرقة (2)، وهو يعقدها جملا بكفه، إذ غشيته سآمة، وأخذته سنة، فغلبته عيناه. فقال: