هذا هارون بن محمد الرشيد أمير المؤمنين، فنظر إليه الفضل بن عياض ساعة، ثم قال: هذا الوجه الجميل يسأل غدا عن أمة محمد ويؤاخذ بها، لئن كان العفو والغفران يسعك مع ما أنت فيه، إن هذا لهو الفضل المبين، وكان الرشيد من أجمل الناس خلقا، وأحسنهم نطقا، وأبلغهم لسانا، وأعذبهم كلاما، وأكثرهم علما وفهما، ثم جعل الفضل بن عياض يعظه ويخوفه حتى بكى هارون بكاء شديدا. قال ابن المبارك. ما رأيت أحدا يبكي بكاء الرشيد يومئذ، ثم أفاق من بكائه، فجعل الفضل يذكر مثالبه، ومثالب أهل بيته، ورداءة سيرتهم، وخلافهم الحق، ثم لم يدع شيئا يعيبه به، ولا أمرا ينتقصه فيه إلا واستقبله به. فقال له الرشيد: يا أبا الحسن، أما لك ذنوب تخاف أن تهلك بها إن لم يغفرها الله لك: فقال الفضل: بلى. فقال الرشيد:
فما جعلك بأحق أن ترجو المغفرة مني؟ وأنا على دين يقبل الله فيه الحسنات، ويعفو عن السيئات، ومع ذلك فإني والله ما كنت لأخير (1) بين شئ وبين الله إلا اخترت الله تعالى على ما سواه، الله الشاهد على قولي، والمطلع على نيتي وضميري، وكفى به شهيدا: وأنا مع هذا ألي من الإصلاح بين الناس، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ما لا تليه أنت، فما جعلك أحق أن ترجو المغفرة مني؟ فسكت الفضل ساعة ثم قال: ما ظلمك من حجك (2)، ثم قام هارون للخروج. فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، إني أخشى أن يكون العلم قد ضاع قبلك كما ضاع عندنا، فقال الرشيد: أجل إنه ما قلت. فلما قدم الرشيد العراق كان أول ما ابتدأ فيه النظر أن كتب إلى الأمصار كلها، وإلى أمراء الأجناد، أما بعد: فانظروا من التزم الأذان عندكم، فاكتبوه في ألف من العطاء، ومن جمع القرآن وأقبل على طلب العلم وعمر مجالس العلم، ومقاصد الأدب، فاكتبوه في ألفي دينار من العطاء، ومن جمع القرآن، وروى الحديث، وتفقه في العلم واستبحر، فاكتبوه في أربعة آلاف دينار من العطاء، وليكن ذلك بامتحان الرجال السابقين لهذا الأمر، من المعروفين به من علماء عصركم، وفضلاء دهركم، فاسمعوا قولهم وأطيعوا أمرهم، فإن الله تعالى يقول: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " وهم أهل العلم. قال ابن المبارك: فما رأيت عالما ولا قارئا للقرآن، ولا سابقا للخيرات، ولا حافظا للمحرمات بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعلم، ويروي الحديث، ويجمع الدواوين، ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة.